الحمد لله المتفرد بالخلق والاختيار، القائل في محكم التنزيل:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}[القصص:٦٨] أحمده تعالى على نعمه الغزار، وأشكره على فضله المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الغفار، سبحانه هو الله الواحد القهار، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأطهار، وصحبه الأبرار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله -تبارك وتعالى- واشكروه على نعمه الظاهرة والباطنة.
عباد الله: إن المتأمل في أحوال هذا الكون، يجد أنَّ من أعظم الدلائل على وحدانية الله، وأكبر الشواهد على ربوبيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته، أنه جل وعلا يختار ما يشاء من الأشخاص والأمكنة، ويخص ما يريد من الأشياء والأزمنة، لمقاصد عُظمى تقوم عليها مصالح العباد، فلا شريك له سبحانه يختار كاختياره، ويدبر كتدبيره:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}[القصص:٦٨].
ومن ذلك اختياره -سبحانه- للملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين، فاصطفى -سبحانه- الأنبياء من ولد آدم، واختار الرسل منهم {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام:١٢٤] واختار من الرسل أولي العزم، واختار من أولي العزم الخليلين إبراهيم ومحمداً عليهما الصلاة والسلام، ومن ذلك اختياره ولد إسماعيل من أجناس بني آدم، ثم اختار منهم بني كنانة من خزيمة، ثم اختار من بني كنانة قريش، ثم اختار من قريش بني هاشم، ثم اختار من بني هاشم سيد ولد آدم محمداً صلى الله عليه وسلم، واختار له أصحاباً هم أفضل الأمة بعده، واختار أمته وفضلها على سائر الأمم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران:١١٠].
فلله القدرة النافذة، والحكمة البالغة فيما يخلق ويختار، وإن مما اختاره الله -عز وجل- لعباده من الأمكنة المباركة هذا البلد الحرام، خير الأماكن وأشرف البقاع على الإطلاق، اختاره الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل عرصاته مناسك لعباده، وأوجب عليهم الإتيان إليه من كل فجٍ عميق، فيدخلونه متواضعين متذللين متجردين عن لباس أهل الدنيا.