للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأرى أن التداوي يدخل في جملة ما أمر به المسلم من الحفاظ على بدنه، حيث أبيحت له الميتة وهي حرام - في سبيل الإبقاء على حياته حتى قال الفقهاء: إن الأكل منها واجب فمن اضطر إلى الميتة ولم يأكل حتى مات دخل النار، وهذا وإن لم ينطبق على جميع الأدوية إذ لا يعلم حصول الشفاء بها، ولكن ما ثبت بالعلم والتجربة لا يجوز للمسلم أن يمتنع عن التداوي به وإلا ارتكب ظلمًا في حق نفسه بمنعها من الشفاء وعرضها فريسة للأمراض.

ولا أوافق رأي الحنفية القائلين بأنه لو امتنع فمات لا يأثم لأنه مظنون (١) . لأن الدواء إذا تيقن طريقًا للعلاج تعين عليه حفظ صحته به، وقد يكون قولهم هذا مبنيًّا على ما كان عليه الطب في عصرهم حيث أن أغلب الأدوية كانت بدائية وكثيرًا منها كان وصفات متوارثة لا تعطي نتيجة فعالة في أغلب الأحيان وعلى هذا فلا أوافق ابن تيمية فيما ذهب إليه من أن (قول الأطباء: أنه لا يبرأ من هذا المرض إلا بهذا الدواء المعين. فهذا قول جاهل، لا يقوله من يعلم الطب أصلًا، فضلًا عمن يعرف الله ورسوله، فإن الشفاء ليس في سبب معين يوجبه في العادة كما للشبع سبب معين يوجبه في العادة، إذ من الناس من يشفيه الله بلا دواء) (٢) .

بل أقول: إن كلامه مبني على ما كان عليه الطب في عصره، وفي قائمة الأدوية ما يقطع بكونها دواء لبعض الأمراض نتيجة التجربة والخبرة الطويلة، حتى أصبحت هذه الأدوية في حكم المقطوع بها والذي لا يعتبر تركه من التوكل، بل تركه حرام عند خوف الموت كما ذهب إليه كثير من الحنفية (٣) والشافعية (٤) ، ولذا أرجح ما ذهب إليه أصحاب القول الرابع وهم بعض الشافعية والحنفية لما ذكرت وأن المسلم في كل أحواله يعتقد أن الله تعالى هو الفاعل وأن التداوي أيضًا من قدر الله تعالى ولن يكون في ملكه إلا ما يريد.

ولذا قال بعضهم: ولا ينقص التداوي توكل العبد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به وأخبر عن حكمة الله تعالى فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما من داء إلا وله دواء عرفه من عرفه، وجهله من جهله إلا السام يعني الموت)) . وقال صلى الله عليه وسلم: تداووا عباد الله.. وكان يحتجم ويشرب الدواء، وربما كان المتداوي فاضلًا لمعنيين أحدهما: أن ينوي اتباع السنة والأخذ برخصة الله وقبول ما جاءت به الحنيفية السمحة، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم غير واحد من الصحابة بالتداوي والحمية.. وهو أعلى المتوكلين..


(١) حاشية ابن عابدين: ٥/٢٤٩.
(٢) فتاوى ابن تيمية: ٢٤/٢٧٤.
(٣) الفتاوى الهندية: ص٣٣٥ وفيه أن الأسباب المزيلة للضرر تنقسم إلى مقطوع، وموهوم ثم قال: (أما المقطوع به فليس تركه من التوكل بل تركه حرام عند خوف الموت) .
(٤) الإحياء للغزالي: ٤/٢٧٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>