للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لكن يشكل على هذا ما ورد من أن جماعة من العلماء تركوا التداوي مما يظن أن التداوي نقصان في الدين، ومن هؤلاء الذين تركوا التداوي جماعة من الصحابة والسلف وغيرهم، فقد روي عن الصديق أنه قيل له: لو دعونا لك طبيبًا؟ فقال: الطبيب قد نظر إليَّ وقال: إني فعال لما أريد، وقيل لأبي الدرداء أندعو لك طبيبًا؟ قال: الطبيب أمرضني، ونحو ذلك عن أبي ذر وابن خيثم.. وكذلك أحمد ابن حنبل كان به علل فلا يخبر الطبيب وكان يقول: أحب لمن اعتقد التوكل وسلك هذا الطريق ترك التداوي من شرب الدواء وغيره (١) .

ووجه الجمع بين ما سبق من فعل النبي صلى الله عليه وسلم من التداوي والأمر به، وبين أفعال هؤلاء يكون بمعرفة الصوارف عن التداوي.

وقد حصر الغزالي أسباب تركهم للتداوي في ستة أسباب نوجزها فيما يلي:

السبب الأول: أن يكون المريض قد علم بنهاية أجله إما بمكاشفة أو برؤيا صادقة وتارة بحدس وظن ويشبه أن يكون ترك الصديق (٢) . التداوي من هذا السبب فإنه كان من المكاشفين فإنه قال لعائشة - رضي الله عنها - في أمر الميراث: إنما هن أختاك، وإنما كان لها أخت واحدة، ولكن كانت امرأته حاملًا فولدت أنثى، فعلم أنه كان قد كوشف بأنها حامل بأنثى فلا يبعد أن يكون قد كوشف أيضًا بانتهاء أجله وأن الدواء لا ينفعه وإلا فلا يظن به إنكار التداوي وقد شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تداوى وأمر به.

السبب الثاني: أن يكون المريض مشغولًا بحاله وبخوف عاقبته فينسيه ألم المرض، وعليه يحمل كلام أبي ذر إذ قال: إني عنهما مشغول، وكلام أبي الدرداء.

السبب الثالث: أن تكون العلة مزمنة والدواء الموصوف موهوم النفع جار مجرى الكي والرقية، فيتركها المتوكل لعدم الوثوق بالدواء، وأكثر من ترك التداوي من العباد والزهاد هذا مستندهم.

السبب الرابع: أن يترك التداوي استبقاء للمرض لينال ثوابه بحسن الصبر على البلاء، أو ليجرب نفسه في القدرة على الصبر، وقد ورد في ثواب المرض أحاديث كثيرة.

السبب الخامس: أن يكون العبد قد سبق له ذنوب وهو خائف منها عاجز عن تكفيرها فيرى المرض إذا طال تكفيرًا، فيترك التداوي خوفًا من أن يسرع زوال المرض.


(١) إحياء علوم الدين: ٤/٢٧٩.
(٢) عارضة الأحوذي: ٨/٢٠٥ قال: وإذا تحقق العبد الموت كره التداوي، وعليه يحمل فعل الصديق.

<<  <  ج: ص:  >  >>