للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما الأمان الذي يعطى للجماعة فإنه من شأن أمير المؤمنين لتحري المصلحة , ولو جعل ذلك لآحاد الناس لصار ذريعة إلى إبطال الجهاد (١) . ويتقرر الأمان صورة بأي من الصور التي تدل عليه , بالعبارة، أو الإشارة، فلما حاصر المسلمون " تستر " ونزل الهرمزان على حكم عمر بعث به أبو موسى الأشعري على وفد فيهم أنس بن مالك والأحنف بن قيس إلى عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا هرمزان، كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله، فقال: يا عمر إنا وإياكم في الجاهلية، كان الله قد خلى بيننا وبينكم، فغلبناكم، إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا. فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا.. ثم قال: ما عندك وما حجتك في إنقاضك مرة بعد مرة؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك، قال: لا تخف ذلك، فاستقى الهرمزان ماء فأتي به في قدح غليظ، فقال: لو مت عطشًا لم أستطع أن أشرب في هذا، فأتي به في قدح آخر يرضاه، فلما أخذه جعلت يداه ترتعد، وقال: إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب. فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه , فأكفأه , فقال عمر: أعيدوه عليه، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش. فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأنس. فقال له عمر: إني قاتلك، فقال: إنك أمنتني. قال: كذبت، فقال أنس: صدق يا أمير المؤمنين. فقال عمر: ويحك يا أنس، أنا أؤمن من قتل مجزأة والبراء؟! قال: قلتَ: لا بأس عليك حتى تخبرني، وقلتَ: لا بأس عيك حتى تشرب. وقال له من حوله مثل ذلك، فامتنع عمر عن قتله , ثم أسلم الهرمزان. (٢) .

ويبقى المستأمن مستحقًا بحقه في الأمن ما دام محافظًا على الأمن والنظام العام ولم يخرج عليهما بأن يكون عينًا أو جاسوسًا، وتطبق عليه القوانين الإسلامية في المعاملات المالية، وكذلك العقوبات. (٣) .

وإذا عاد إلى دار الحرب فإنه يبطل الأمان بالنسبة لنفسه ويبقى بالنسبة لماله , قال ابن قدامة في المغني: " إذا دخل حربي دار الإسلام بأمان فأودع ماله مسلمًا أو ذميًّا أو أقرضهما إياه، ثم عاد إلى دار الحرب نظرنا فإن دخل تاجرًا، أو رسولًا، أو متنزهًا أو لحاجة يقضيها، ثم يعود إلى دار الإسلام، فهو على أمانه في نفسه، وماله؛ لأنه لم يخرج بذلك عن نية الإقامة في دار الإسلام، فأشبه الذمي لذلك، وإن دخل دار الحرب مستوطنًا، ثبت الأمان لماله، فإذا بطل الأمان في نفسه بدخوله دار الحرب، بقي في ماله، لاختصاص المبطل بنفسه فيختص البطلان به". (٤) .

وبعد أن تناولنا المعاهدين، والهدنة والأمان باعتبارها من آثار الجهاد نشير إلى أنه قد نعقد الصلح بين المسلمين وبين أقوام دون حصار، كما صالح عمر بني تغلب، فقد قال له عبادة بن النعمان التغلبي، أو أبوه: يا أمير المؤمنين، إن بني تغلب قد علمت شوكتهم، وأنهم بإزاء العدو، فإن ظاهروا عليك العدو اشتدت مؤونتهم، فإن رأيت أن تعطيهم شيئًا فافعل. فصالحهم عمر على ألا يغمسوا أولادهم في النصرانية، ويضاعف عليهم الصدقة. (٥)

كما يجوز أن يتضمن عقد الصلح أمورًا أخرى يتم الاتفاق عليها بين الطرفين.


(١) الروضة الندية: ص ٤٠٨؛ وانظر فقه السنة: ٢/ ٦٩٦
(٢) البداية والنهاية لابن كثير: ٧/ ٨٧، والأموال: ص ١١٣؛ والمغني: ٨/ ٤٨٩ و ٣٩٨؛ وسنن البيهقي: ٩/ ٩٦؛ وانظر موسوعة فقه عمر: ص ١٢١
(٣) فقه السنة: ٢/ ٦٩٨
(٤) المغني: ٨/ ٤٠٠ و ٤٠١
(٥) موسوعة فقه عمر: ص ٣١٨

<<  <  ج: ص:  >  >>