للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي ذلك يقول الدكتور المطعني: "في هذه الآية صور القرآن الأمين موقفهم في مواجهة الدعوة حيث قالوا إن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد افترى القرآن، وادعى أنه من عند الله، ثم طالبهم في الآية الثانية بأن يأتوا بكلام مثل القرآن في علو منزلته، أي كلام غير مقيد بطول أو قصر كثر أم قل، فمحمد ـ عليه السلام ـ بشر مثلهم وعربي مثلهم، فإذا كان هو صاحب هذا الكلام بحق فليحاكوه إن كانوا صادقين في دعواهم، والقرآن في هذه المواجهة يثيرهم ويحرك مشاعرهم ليأتوا بكلام مثل القرآن وجعل هذا الإتيان شرطًا في صدقهم فإن لم يأتوا فما هم بصادقين.

إن بواعث الخصوم على المحاكاة هنا لا بد أن تكون قد بلغت درجة الفوران، ولكنهم لم يقدموا على المحاكاة، فما هو السبب؟ أهو زهدهم في المحاكاة مع القدرة عليها؟ أم هو رغبتهم عن الصدق مع شدة افتقارهم إليه؟ إنهم لو كانت المحاكاة في مقدرتهم وأتوا فعلًا بمثل القرآن لقضوا في تلك الجولة على الرسالة والرسول, ولكنهم لم يفعلوا مع قيام كل الدواعي الشعورية والخصومية على تلك المحاكاة المدعاة، وليس لهذا التقاعس والقصور أي تفسير مقبول إلا عجزهم الفعلي عن المحاكاة لأن "المحاكى" فوق طاقة البشر والجن.. لقد تحدى القرآن خصومه، واستحثهم على الدفاع عن أنفسهم ولكنهم وجموا أمام ذلك التحدي وهم أحوج ما يكونون إلى الدفاع عنها، إنهم عاجزون وكفى" (١) .

وقد ذكر الله تعالى أنهم لم يستجيبوا للتحدي ويأتوا بمثل القرآن أو بشيء من مثله فليعلموا أنما هو من عند الله، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٣) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (٢)

, ثم جاء القرآن بعد ذلك التدرج في التحدي من مثل القرآن إلى عشر سور من مثله إلى سورة واحدة من مثله لينتهي بعد ذلك إلى إثبات العجز المطلق لكل الكائنات , فقال في سورة البقرة ليشمل التحدي أهل الكتاب مع المشركين: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيبٍ مِّمَّا نَزَّلنَا عَلَى عَبدِنَا فَأتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثلِهِ وَادعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّم تَفعَلُوا وَلَن تَفعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّت لِلكَافِرِينَ} (٣) ..

ثم أكد في سورة الإسراء أن العجز عن محاكاة القرآن شامل للجن أيضًا مع الإنس فقال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (٤) .

وبهذا حكم الله تعالى بالعجز على الجميع من لدن نزول القرآن أي قيام الساعة، فهل هناك إعجاز أعظم من ذلك؟ وهل هناك دليل على صدق الرسول والرسالة أقوى وأوضح من ذلك؟


(١) الإسلام في مواجهة الاستشراق: ص ٥١٨ ـ ٥١٩
(٢) سورة هود: الآيتان: ١٣، ١٤
(٣) سورة البقرة: الآيتان: ٢٣، ٢٤
(٤) سورة الإسراء: لآية ٨٨

<<  <  ج: ص:  >  >>