للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثالثاً- لأن البوح بالأسرار فيه غالباً اتباع لهوى النفس ممن يفعله:

وقد قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: ٢٦] ، فإن الذي يدعو الناس إلى فضح أسرار غيرهم أو كشف معايبهم أكثرها راجع إلى الهوى.

فمن ذلك:

أ- أن النفوس تنزع إلى كشف الخبايا، والتبسط بغيبة الناس وذكر معايبهم، وخاصة في المجالس التي لا يتقى فيها الله تعالى، فمن اتبع ما تنزع إليه نفسه من ذلك كان متبعاً للهوى، ومن جارى قائلي السوء وكشف لهم ما يعلم من أسرار إخوته، كان متبعاً للمتبعين للهوى من إخوان الشياطين، قال الحليمي: إنما يحمل على ذلك الدغل ورداءة الطبع وسوء النية (١)

فإن الصاحب إذا حل من خليله محل الفؤاد، فاطمأن كل منهما إلى الآخر وركن إليه، فائتمنه على أدق أسراره، وبث إليه أشياء مما في نفسه وأخباراً عن أشياء فعلها، وربما أفضى إليه برأي له في فلان من الناس أو فلانة، فحق حامل الأمانة أن يكون كفناً لها، فلا يفضي بشيء من ذلك إلى أحد، ولو أن حبل الوداد انفصم بين هذين الصاحبين ما كان لأحد منهما أن يخون ما ائتمن عليه، ولا أن يفشي سر صاحبه القديم، فإن فعل ذلك يدل على لؤم طبعه وخبث باطنه (٢) وليس للآخر أن يقول: فضحني فأفضحه، وأذلني فأذله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)) .

ثم إن كان في فضح سر المسلم، وكشف الستر عنه، ضرر يلحقه في نفسه أو ماله أو بدنه أو مركزه الاجتماعي، فإن الغالب أن يكون ذلك عن عداوة باطنة أو حقد خفي أو حسد دفين، وذلك من الهوى؛ قال الغزالي: (منشأ التقصير في ستر العورة أو السعي في كشفها: الداء الدفين في الباطن، وهو الحقد والحسد، فإن الحقود الحسود يملأ باطنه الخبث، ولكنه يحبسه في باطنه ويخفيه ولا يبديه مهما لم يجد له مجالاً، وإذا وجد فرصة انحل الرباط وارتفع الحياء وترشح الباطن بخبثه الدفين) (٣) .

ويزداد ذلك الهوى ضراوة إذا انحل رباط المودة فعاد عداوة، فإن لم يكن للصديق القديم عاصم من دين يعتصم به، استغل تلك الأسرار القديمة، وأصبحت في يديه سلاحاً يقتل به عدو اليوم أخاه بالأمس، وكان للهوى حينئذ الأمر والنهي، ولإبليس الكلمة التي لا ترد، لكنه ليس له سلطان على غير الغواة، بل إن هذه الحالة في الحقيقة هي التي تتبين فيها قدرة أهل الحفاظ على كتم الأسرار، فمن أفشى السر عند الغضب فهو لئيم؛ لأن إخفاءه عند الرضا تقتضيه الطباع السليمة كلها، وإنما محل الامتحان عند الغضب، فإفشاؤه عنده من علامات اللؤم وخبث الطبع وسوء السريرة، وقد قال بعض الحكماء: لا تصحب من يتغير عليك عند أربع: (عند غضبه ورضاه، وعند طمعه وهواه) ؛ بل ينبغي أن يكون صدق الأخوة ثابتاً على اختلاف هذه الأحوال (٤) .


(١) المنهاج في شعب الإيمان ٣/ ٣٦٢
(٢) إحياء علوم الدين: ٥/ ٩٥٨، ط الشعب
(٣) إحياء علوم الدين: ٥/ ٩٦٠
(٤) الإحياء وشرحه: ٥/ ٢١٨

<<  <  ج: ص:  >  >>