للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

متى يجوز إفشاء الأسرار؟

لا يجوز البوح بالسر الذي يشرع كتمانه –على الوجه الذي تقدم- إلا في أحوال معينة، منها:

١- انقضاء حالة كتمان السر:

إذا انتهت حالة السر من غير جهة الكاتم لها، فلا بأس أن يتكلم بذلك. ويكون انقضاء حالة السر بأمور:

أ- أن يبوح بالسر صاحبه نفسه؛ لأنه لا يعود سراً فيكتم، ولذا فيرتفع الحرج بذلك (١) ، ومع هذا فقد تبقى بعض التفاصيل التي لم يبح بها سراً إن كان يكره التصريح بها، أو يكون في إعلانها ضرر عليه، ومن هنا كان من يفعل الفواحش ويعلن بها خارجاً عمن يجب الكتمان عليه؛ لأنه كاشف ستر نفسه من أول أمره، ولأنه لم يبال أصلاً بما يقال فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله تعالى فيقول: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)) متفق عليه.

فإن الرجل إذا قارف السوء، ولم يره غير الله تعالى والكرام الكاتبين الذين يعلمون ما يفعلون، كان عليه أن يستتر بستر الله ويتوب إليه، ولكنه إذا ذهب يكشف ستر الله عنه ويحدث فلانًا وفلانًا بقبيح ما فعل، فكأنه يتمدح بالمذمة، ويتفاخر بالمعصية، فيزداد قبحا إلى قبح، ولم يكن للستر عليه معنى، وإنما تنصرف مشروعيته كتم السر والستر على صاحب المعصية إن كان ممن تبدر منه الزلة النادرة، وظاهره عند الناس حسن جميل.

وقد قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: ١٥] .

فالظاهر أن طلب الشهداء ليشهدوا في هذه الحال إنما هو في المرأة التي كثر منها ذلك واشتهر، جمعاً بين ما في هذه الآية وبين ما علم في الشريعة من طلب الستر على من بدرت منه الزلة وأناب.

ب- انقضاء الأضرار والمفاسد التي يتضرر بها المكتوم عنه أو غيره من جميع نواحيها: بدنياً ونفسياً ومعنوياً ومالياً، وهذا إن كان سبب مشروعية الكتمان الضرر، فأما إن كان السبب حمل الأمانة فلا تنقضي بذلك، ما لم يأذن المكتوم عنه بإعلانها أو يعلنها هو بذاته.

ج- أن يأذن صاحب السر في إفشائه، فإن أذن فلحامل السر أن يحدث به، فإذا حدث به أحداً أداه على أحسن وجه، واختار أجود ما سمع.

د- أن يكون الالتزام بكتمان السر إلى أجل، فيأتي ذلك الأجل.

هـ- أن ينتقل حال المكتوم عنه ممن يشرع كتمان سره إلى من يشرع كشف ستره وفضح أمره، كأن ينتقل من حال الإيمان إلى النفاق والكفر والعياذ بالله، أو من حال التستر بالفواحش إلى الإعلان بها.


(١) فتح الباري: ٩/ ١٧٧- ١٧٨

<<  <  ج: ص:  >  >>