للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(وفي القرآن مجمل كثير كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا نعلم ما ألزمنا الله فيه بلفظه، لكن ببيان النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان بيانه عليه السلام لذلك المجمل غير محفوظ، ولا مضمون سلامته مما ليس منه، فقد بطل الانتفاع بنص القرآن، فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا منه، فإذن لم ندر صحيح مراد الله تعالى منها) . (١)

وحاولوا إثبات موقفهم من السنة، وتأكيد آرائهم الموروثة فيها عن السابقين، وبخاصة المستشرقين، بالاستناد إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بكتابة الحديث، بل نهى عن ذلك، وأن الصحابة والتابعين لم يولوه العناية اللازمة من أجل جمعه وتدوينه، فصار بسبب ذلك ما وصل إلينا منه بعد التدوين ظني الثبوت، لا يصح الاحتجاج به. ويؤيد هذا الموقف ويدعو إلى الالتزام به قوله جل وعلا في الرد على المشركين: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام: ١٤٨] وتوجيهه أمره سبحانه لنا بقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: ٣٦] .

وهذا الكلام ظاهر البطلان؛ لأن النهي عن كتابة الحديث في زمن الرسول كان من أجل عدم اختلاط الكتاب بالسنة، والأصل المنزل به القرآن بما يتصل به من بيان أو تفسير من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قاعدة عامة اقتضاها ظرف خاص وحالة معينة. وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لبعض الصحابة بكتابة الحديث، والشواهد على هذا مثبتة في كتب العلم. أما الصحابة والتابعون فكانوا يتلقون ويتحملون مباشرة عن النبي، أو عن الصحابة، وكانوا يعتمدون الحفظ في ذلك الزمان أكثر من الكتابة والخط، وكانوا يتعاونون على الرواية والحفظ، فلم يحتاجوا إلى الجمع ولا إلى التدوين. فلما خشي المؤمنون على ذهاب السنة بذهاب حفاظها أقبلوا على طلبها، وبذلوا في ذلك كل الجهد مع الضبط والتحري. ويكفي ذلك للتأكد من صحة المرويات من الحديث؛ إذ لا يلزم لثبوت الأخبار والجزم بصدورها عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكون مكتوبة مدونة، بل يكفي في ذلك أن تكون متواترة أو منقولة عن العدول الثقات الأثبات. وفي الحفظ والضبط في ذلك الوقت غنى عن الكتابة.

ولا يقال: إنها ظنية لا تفيد علماً ولا يجب العمل بها؛ لأن الظن، وبخاصة في الدين، لا يغني عن الحق شيئاً؛ لأن هذا الشرط وإن كان معتمداً في أصول الدين لكفر من جحدها أو شك فيها كالوحدانية والرسالة وأركان الإسلام وما علم من الدين بالضرورة، فإنه غير لازم في الفروع والأحكام كما هو مقرر عند الأصوليين.


(١) ابن حزم: الإحكام: ٦/١٢١

<<  <  ج: ص:  >  >>