للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وطلائع هذه الفتنة في البلاد العربية من المتغربين كثر، قامت دعوتهم على إنكار السنة والتهوين من شأنها؛ إبطالاً لحجيتها ودفعاً لوجوب العمل بها، والتنويه بأن الإسلام يمثله القرآن وحده لأنه الوحي والذكر، ولأنه متواتر، ولأن الله التزم بحفظه، وعني الرسول من أول الأمر بتدوينه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) } [فصلت: ٤٢] . وهذه الدعوة أو المقارنة بين الكتاب والسنة جهل وإفك وتضليل وتعطيل. وهي وإن راجت على طائفة من الناس زمناً قصيراً، غير أن ما قامت عليه من دلائل وشبه لم ينهض أمام النظر، ولم يلبث أن تبدد وانحسر عند التأمل والفحص.

قالوا: إن في القرآن لوفاء وغنية وتبياناً لكل شيء. أكدت ذلك آياته وأجمع المسلمون كلهم على اعتقاده. قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: ٣٨] . وقال جلت حكمته: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: ٨٩] . فهل يحتاج بعد هذا إلى مزيد تفصيل أو إلى إضافات تكمل الوحي المنزل؟

بل ألم يعلم هؤلاء أن القرآن اشتمل على أصول الدين كلها، وعلى قواعد الأحكام العامة، فنص على بعض هذه الأحكام بصراحة، وترك بيان البعض الآخر للرسول المبلغ عن الله، والواجب اتباعه وطاعته بأمر من الله. قال الشافعي: (فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها. قال الله تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: ١] ... فكل من قبل عن الله فرائضه في كتابه، قبل عن رسول الله سننه بفرض الله طاعة رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه، ومن قبل عن رسول الله فعن الله قبل لما افترض الله من طاعته) . (١)

وقالوا: إن الله أحاط كتابه بأسباب العناية والحفظ، فقال جل ذكره: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: ٩] . فهل وجدت السنة مثل ذلك أو حظيت بشيء مما اختص به الكتاب؟ أجل إن السنة علم تلقاها المؤمنون عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعلموها منه، وتم على مر السنين جمعها وتدوينها، كما قيض الله لها من يحرسها من الزيادة والوضع، والغلو وفساد التأويل، فأوكل بها أئمة حفظوها ورووها وبلغوها عن نبيهم لما فيها من هداية وحكم. وقد أمر الله عباده للخروج من الحيرة واللبس، بطلبها ممن اختص بمعرفتها فقال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٤٣] . وهل الذكر إلا كل وحي نزل من عند الله. فهو واقع على الكتاب والسنة جميعاً. وهي وحي غير متلو، تولى نبينا صلى الله عليه وسلم بيان القرآن للناس بها.


(١) الرسالة: ٢٠/٤٨، ٣٣/١٠٢

<<  <  ج: ص:  >  >>