للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد انضم إليه أحد الأدباء اللامعين خريج القضاء الشرعي وعميد كلية الآداب بالجامعة المصرية سابقاً الدكتور أحمد أمين، ففتح الباب على مصراعيه لنشر آراء جولدزيهر، وبتزويقها أدنى تزويق مع البعد عن المنهجية العلمية، روج بين العامة في حديثه عن السنة (١) آراء وأفكاراً لم يكن أحد يتصور صدورها عن مثله من رجال الأدب العربي والفكر الإسلامي. وهو في اعتقادي لم يتناول جوانب لم يتعرض إليها أسلافه بقدر ما تفلسف فيما وقف عليه منها، أو حاول شرحه وتفصيل القول فيه، بطريقة تجعله في تصور أهل عصره من الباحثين المجددين.

كانت أهم القضايا التي تعرض إليها في فصل الحديث ستة: تدوين الحديث، عدالة الصحابي، الوضع، البخاري وصحيحه، ابن المبارك، النقد. وهذه الموضوعات بعضها آخذ برقاب بعض لشدة الاتصال بينها. وهو في كل واحدة منها، وإن كان أمرها غير خفي، يحاول أن يجعل منها متكأ، بل منطلقاً إلى التشكيك أو ترويج شبهة.

فالتدوين بالقطع لم يكن في عهد الرسول، بمعنى أن الحديث لم يكتب ولم يوضع له كتاب خاص به في ذلك الوقت. وكان الاعتماد فيه على الذاكرة؛ أي: على الحفظ، فلم يكن من الصحابة إلا قليل يكتب لنفسه. ورواية الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كانت تكثر وتقل بحسب أمزجة الناس، وما اشتهروا به من كراهة التحديث أو رغبتهم في الإكثار منه. وبدل أن يقف أحمد أمين عند هذه المسألة فيبين مدى اعتماد الناس على الذاكرة، وعادة العرب في ذلك، وطرق التحمل للعلم، والاحتياط في الرواية والضبط والحفظ للحديث، يسرع إلى القول بما يؤكد أن الكتابة قيد، وأن الذاكرة خؤون، وأن الصحابة لا يسلمون بصحة حديث حتى يجدوا من الرواة من يشهد له. وقع ذلك كثيراً في عهد الشيخين أبي بكر وعمر، وإذا قامت الرواية في هذا العهد حسب ظنه على الريبة وقلة الاطمئنان، فالأمر يرجع بدون شك في التقدير إلى المحدث الصحابي الذي تتلقى منه الأخبار ويتحمل عنه الحديث، وإلى ما انتشر وينتشر في ذلك الزمان من أحاديث وأخبار لا تعد ولا تحصى كثرة في مختلف الموضوعات والأغراض وما يحتاج الناس إلى معرفته من أمور دينهم ودنياهم.

ومن هذه الجزئية ننتقل إلى أول الأمرين لنرى موقف الكاتب من الصحابة ومدى جواز الاعتماد على ما يروونه ويحدثون به من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: (وأكثر هؤلاء النقاد، يعني نقاد الحديث، عدلوا الصحابة كلهم إجمالاً وتفصيلاً، فلم يتعرضوا لأحد منهم بسوء، ولم ينسبوا لأحد منهم كذباً، وقليل منهم أجرى على الصحابة ما أجري على غيرهم.) (٢) وفي هذه الجملة وما تضمنته من حكم مغالطة؛ لأن نقاد الحديث جميعهم لا أكثرهم مطبقون على عدالة الصحابي. قال الذهبي: (فأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى ... إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل، وبه ندين الله تعالى) (٣) وقال ابن كثير: (والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة) . (٤)

فالقليل الذي أجرى عليهم ما أجري على غيرهم لم يكن يعد من النقاد ولا من العلماء الصادقين الذين نهضوا بتنقية الحديث مما خالطه وتمييز جيده من رديئة كما زعم أحمد أمين، ولكنه من الفرق السياسية المعروفة بمواقفها من الصحابة وتقسيمها لهم.


(١) فجر الإسلام: ٢٢٥ - ٢٧٤
(٢) فجر الإسلام: ٢٦٥
(٣) رسالة في الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم: ٤
(٤) اختصار علوم الحديث: ٢٢٠

<<  <  ج: ص:  >  >>