للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبعد هذا التمهيد ينتقل صاحب فجر الإسلام من الحكم العام الذي دس له وأراد إثباته إلى صورة تطبيقية تلقفها عن أستاذه جولدزيهر فجعل منها مثالاً للطعن والمؤاخذة، يستدل بها أولاً على ما أراده من كون الصحابة مثل غيرهم من الناس، وأن بينهم تفاوتاً، وأن بعضهم ينتقد بعضاً، فيورد دسائسه حول أبي هريرة رضي الله عنه للتهوين من شأنه، وحمل الناس بعد ذلك على الصدوف عن الرواية والشك في الحديث بصفة عامة.

وجملة ما ذكره من ذلك: أن بعض الصحابة كابن عباس وعائشة ردوا عليه بعض حديثه وكذبوه.

وأن بعضهم أكثر من نقده وشك في صدقه.

وأنه لم يكن يعتمد في روايته على الكتابة ولكن على الذاكرة وحدها.

وأنه كان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروي عن الصحابة ما قد يكونون انفردوا به من الرواية عنه.

وأن الحنفية تركوا حديثه إذا عارض القياس لأنه لم يكن فقيهاً.

وأن الوضاع استغلوا شهرته بسعة الرواية فزوروا عليه أحاديث كثيرة.

وهذه المطاعن الملفقة لا تثبت بعد فحصها والإمعان فيها. فردود ابن عباس وعائشة على أبي هريرة هي من النقاش العلمي المحض المبني على اختلاف الأنظار في استنباط الأحكام والاجتهاد، وزعمهم مجانبة أبي هريرة الصدق لكثرة ما روي عنه يبطله ما رواه مسلم من قوله: (إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أراضيهم، وإن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا) (١) وإن في هذه الملازمة لحرزاً وغنى، واعتماده على السماع دون الكتابة هو الظاهرة الغالبة على أهل ذلك العصر، ورواية السماع عند أهل الحديث أولى، وهي مقدمة على الكتابة؛ لبعدها عن طور التصحيف والغلط. وسماعه من الصحابة ما يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مرسل الصحابي، وحكمه حكم المرفوع. وقد أجمعوا على الاحتجاج به، ورد خبره عند الأحناف يخضع لقاعدة عندهم وليس خاصاً بأبي هريرة. قال فخر الإسلام: (إن كان الراوي من المجتهدين كالأربعة والعبادلة وغيرهم قدم الخبر، وإن كان من الرواة وعرف بالعدالة دون الفقاهة كأبي هريرة فلا يترك خبره بمعارضة القياس إلا عند انسداد باب الرأي كحديث المصراة) (٢)


(١) م: ٢/١٩٤٠ – ٤٤ كتاب فضائل الصحابة ح ٢٤٩٢
(٢) نقل السباعي عن مسلم الثبوت. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: ٣١٥

<<  <  ج: ص:  >  >>