للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القسم الثاني

النقود المعاصرة والتضخم

استعرضنا في القسم الأول صور الكساد والانقطاع، وبعض أقوال الفقهاء، في الوفاء بالالتزامات، التي ترتبت في الذمة بالنقد القديم، قبل كساده، أو انقطاعه. وقبل البدء بعرض ما يتحقق في النقود المعاصرة، من هذه الصور، أو من صور أخرى، قريبة منها، في القسم الثالث من البحث، لا بد لنا من مقدمات في تعريف النقود المعاصرة، وفي التضخم وقياسه، وما يلحق به من مسائل، وذلك حتى تتضح الخلفية، التي تتأسس عليها صور الكساد، والانقطاع، والرخص، والغلاء، التي تطرأ على النقود المعاصرة. لذلك سيتكون القسم الثاني هذا من خمس نقاط هي:

١- ماهية النقود المعاصرة.

٢- التضخم ومقياسه.

٣- أنواع التضخم وأسبابه.

٤- السلطة النقدية والنظم النقدية.

٥- تعامل الناس والحكومات مع التضخم.

أولًا: ماهية النقود المعاصرة.

بدأت النقود المعاصرة بوثائق، أو شهادات، تثبت إيداع القطع الذهبية، والفضية، لدى الصرافين، فصارت هذه الشهادات تتداول بين الناس، كوسيلة دفع، وقد يحتفظ بها الواحد منهم، لحين الحاجة إلى الدفع، فتكون في تلك الفترة مستودعًا للقيمة، ثم بدأت الحكومات تصدر شهادات أو أوراق مماثلة، تتعهد فيها بتسليم مقدار محدد من الذهب أو الفضة مقابل الشهادة عند إبرازها، ثم أصدرت أوراقًا ذات قوة إبرائية في الدفوع، ألزمت الناس باستعمالها في تعاملهم، مع الإبقاء على الالتزام، باستبدال الورقة بالمقدار المحدد عليها، من المعدن الثمين، ثم ألغت ذلك التعهد، فكانت لدينا النقود الورقية الإلزامية دون المقابل، وهي ما نراه شائعًا اليوم في جميع البلدان.

وقد رافق هذا التطور، نمو في الودائع الجارية لدى البنوك، ونمو مماثل في الودائع ذات الأجل، والودائع بالعملات الأجنبية، والودائع ذات القيود على السحب (وهي قيود من أشكال متعددة) ، وصار الدفع في كثير من المعاملات يتم بتحويل حسابي، من حساب إلى آخر، في سجلات المصارف، وصارت البنوك تقرض الناس فائض السيولة لديها، ثم تعود المبالغ المقرضة إلى المصارف من قبل من تصل إلى أيديهم على شكل ودائع جديدة في الحسابات الجارية الدائنة، وذلك دون زيادة في كمية النقود الورقية نفسها، وهكذا تتزايد الحسابات الجارية الدائنة من عدم، بسبب الإقراض المصرفي (عملية إيجاد أو خلق النقود) ، كل ذلك جعل الودائع الجارية تؤدي نفس الوظائف التي تقوم بها النقود الورقية، فاعتبرت الودائع الجارية نقودًا أيضًا، وهي بنوعيها –الناشئ عن عملية إيداع من المتعامل مع البنك والناشئ عن إقراض من البنك- ليست أكثر من قيود في سجلات المصارف، وتعتبر اليوم الجزء الأكبر من الكتلة النقدية في المجتمع، وبما أن الودائع الأخرى، سواء كانت آجلة، أو ذات حق مقيد في السحب، أو بعملات أجنبية، تقوم ببعض وظائف النقود، فقد صارت تسمى "شبه النقود" (١) .


(١) هذه الوظيفة النقدية للمصارف، يجب التأكيد عليها، نظرًا لأهميتها البالغة في الحياة الاقتصادية المعاصرة. وهي قلما تلاحظ، خصوصًا عندما ينحصر الكلام عن الودائع الجارية، بأنها قروض من الأفراد للمصارف، لأن هذا التبسيط المتناهي للمسألة يفرغ الدور النقدي للمصارف من مضمونه ومحتواه

<<  <  ج: ص:  >  >>