للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإعمالًا لما يراه الحنفية من جواز شهادة غير المسلم على غير المسلم، فإنهم قالوا: إنه يصح إشراك غير المسلم مع المسلم في الحكم بين المسلمين وغيرهم، وينفذ ما يحكم به على غير المسلمين وحدهم (١) . وقد يشير مجموع ما تقدم إلى أن الأصل أنه لا يجوز قبول اشتراك غير المسلمين في التحكيم بين المسلمين وقومهم من غير المسلمين، فإذا دعت لذلك مصلحة شرعية، أو دفع إلى ذلك خوف، جاز إشراكهم، فإذا قضى الحكم بما جرى به الشرع فليس للإمام أن يخالف حكمه، وإن كان يجوز له أن يخفف الحكم أو يعفو إذا رأي في ذلك مصلحة (٢) .

وقد يدعو إلى ذلك أن حكم الحظر الذي هو الأصل، لا يستند إلى النص وحده وإنما يلابس سنده المصلحة، وتبرر تفرده الظروف التي كانت سائدة في العصر الأول للإسلام، حيث كانت تتوافر القوة الإسلامية ماديًّا ومعنويًّا – إلا فيما استثني – وكانت علاقة المسلمين بغيرهم من الدول تنحصر في الدعوة إلى الإسلام والدفاع عن الدولة الإسلامية بالحق، وبالسيف إن اقتضى الأمر.

فإذا ما تغيرت الظروف وتعقدت العلاقات، وأصبح النزاع بين الدول الإسلامية وغيرها لا يأخذ دائمًا شكل الحرب، وقد يتطلب جهادًا كبيرًا من التفاوض أو الجدال في الحق بأساليب وطرق مختلفة، وقد لا تكون الدولة الإسلامية دائمًا هي الطرف الأقوى الذي يستطيع أن يملي إرادته على خصومه، وقد تحتم الظروف المحيطة سرعة حسم المنازعة حتى لا يتسلل إليها أطراف آخرون يشدون من عضد خصوم الإسلام، كل هذه العوامل وأمثالها قد تجعل من صالح المسلمين قبول تحكيم يشارك فيه غير المسلم مع المسلم، دون أن تخشى مغبة ذلك، ما دام قد اشترط المسلمون أن لا يجبروا على ما يخالف شريعتهم بوصفها النظام العام الذي لا يملكون مخالفته.


(١) الفتاوى الهندية ج ٢ ص ٢٠١
(٢) حاشية محمد بن بطال ج ٤ ص ٢٥٤؛ سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٥٤٢؛ المغني ج ٩ ص ٣١٣ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>