للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مدرسة أصحاب الرأي:

وهؤلاء الفقهاء ممن عاصروا مالك وسفيان الثوري، وكانوا قوماً لا يكرهون المسائل، ولا يهابون الفتيا، ويقولون: على الفقه بناء الدين فلابد من إشاعته.

وكانوا يهابون رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والرفع إليه، حتى قال الشعبي: على من دون النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلينا، فإن كان فيه زيادة أو نقصان، كان على من دون النبي صلى الله عليه وسلم (١) .

وعن إبراهيم النخعي قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة (اكتراء الأرض بالبر) والمزابنة (بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر)) ) ، فقيل له: أما تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً غير هذا؟ قال: بلى، ولكن أقول: قال عبد الله: قال علقمة: أحب إلي (٢) .

وكان ابن مسعود إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تربد وجهه وقال: هكذا أو نحوه، هكذا ونحوه (٣) .

وأخرج الدارمي في سننه عن قرظة بن كعب قال: بعث عمر بن الخطاب رهطاً من الأنصار إلى الكوفة فبعثني معهم، وقال: إنكم تأتون الكوفة فتأتون قوماً لهم أزيز بالقرآن، فيأتونكم فيقولون: قدم أصحاب محمد، قدم أصحاب محمد، فيأتونكم فيسألونكم عن الحديث، فأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا شريككم فيه (٤) .

وكأن قلوب هؤلاء أميل شيء إلى أصحابهم، كما قال علقمة: هل أحد منهم أثبت من عبد الله؟

وقال أبو حنيفة: إبراهيم أفقه من سالم بن عبد الله، ولولا فضل الصحبة لقلت: علقمة بن قيس (التابعي) ، أفقه من ابن عمر (الصحابي) .

وكان عندهم من الفطانة، والحدس، وسرعة انتقال الذهن من شيء إلى شيء ما يقدرون به على تخريج جواب المسائل على أقوال أصحابهم.

قال الله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: ٥٣] . وقال رسول الله صلى الله عيه وسلم: ((وكل ميسر لما خلق له)) .

تأسيس النظر:

من أوائل مصنفات الأحناف، التي حفلت بفقه التخريج، وتداوله العلماء وأفادوا من منهجه؛ كتاب (تأسيس النظر) للإمام أبي زيد عبيد الله بن عمر المتوفى سنة ٤٣٠ هـ، وقد جاء في المقدمة ما نصه: "فإني لما رأيت تصعب الأمر في تحفظ مسائل الخلاف على المتفقهة – وفقهم الله لمرضاته – وتعسر طرق استنباطها عليهم، وقصور معرفتهم على الاطلاع على حقيقة مأخذها، واشتباه مواضع الكلام عند التناظر، جمعت في كتابي هذا أحرفاً – إذا تدبر الناظر فيها وتأملها – عرف محل التنازع ومدار التناطح عند التخاصم، فيصرف عنايته إلى ترتيب الكلام، وتقوية الحجج في المواضع التي عرف أنها مدار القول، وموضع التنازع في موضع التنازع، فيسهل عليهم تحفظها، ويتيسر لهم سبيل الوصول إلى عرفان مأخذها، فأمكنهم قياس غيرها عليها ". قلت: وهذا هو تخريج المسائل الذي نعرض في هذه الدراسة، أما منهجه في التأليف فأسفرت عنه عبارته، حيث قال: وإني لما نظرت في المسائل التي اختلفت فيها الفقهاء، فوجدتها منقسمة على أقسام ثمانية:

- قسم منها: خلاف بين أبي حنيفة رحمه الله، وبين صحابيه محمد بن الحسن، وأبي يوسف بن إبراهيم الأنصاري.

- وقسم منها: خلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف، وبين محمد بن الحسن رحمهم الله تعالى.

- وقسم منها: خلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى.

- وقسم منها: بين علمائنا الثلاثة: أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد، وبين زفر رحمهم الله تعالى أجمعين.


(١) الدهلوي، حجة الله البالغة: ١ / ١٥٢.
(٢) سنن الدارمي: ١ / ٨٢.
(٣) الدهلوي، حجة الله البالغة: ١ / ٨٣.
(٤) الدهلوي، حجة الله البالغة: ١ / ٨٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>