للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنهم: ومن يتكلف وينوي في كل يوم قضاء عشاء اليوم السابق.

ومنهم: من يقول بالتقدير، ويعتبر غيبة الشفق في أقرب البلاد إليهم، فإذا مضى من الزمان قدر ما يغيب فيه الشفق في أقرب البلدان إليهم دخل وقت العشاء وخرج وقت المغرب، ومقتضى ذلك أن لا يصلوها إلا في نصف الليل بالغيبوبة في أقرب البلدان إليهم، ثم الأقرب فالأقرب حتى يغيب عندهم. وهذه جملة آراء انتحلوها في هذا الباب.

وبعد سرد هذه الأقوال تزييفها قال:

وقد عرفت أن الحق في المسألة أن الوقت ليس بسبب لوجوب الصلاة وتحقيقه ليس بمشروط بالغيبوبة أو غيرها من العلامات المذكورة.

ثم على تقدير سببيته فليس هو من الأسباب والشروط التي لا تحتمل السقوط، فإذا مضى بعد المغرب زمان يغيب فيه الشفق في الأقطار الاستوائية والأيام الاعتدالية دخل وقت العشاء.

وهؤلاء الذين يدينون بإسقاط هذه الفريضة لا يراعون غيبة البياض، ولا يحافظون على غيبة الحمرة كما ينبغي في أيام الشتاء، ثم يتعللون في إسقاط فريضة من أعظم فرائض الله تعالى بزخارف الشبهات (١) .

شذ شرذمة قليلة من أحداث الأمة، وأخلاف المتفقهة؛ وزعموا أن العشاء ساقطة عن سكان بعض الأقطار في عدة من أيام السنة ينتهي اقتصار لياليها إلى غاية لا يغيب الشفق فيها، متوهماً منهم أن الوقت هو سبب لوجوب الصلاة، وظرف لها وشرط لتحققها يتوقف على غيبوبة الشفق. وهو زعم ساقط وتوهم لا مساغ له قط.

وذلك لأن سببية الوقت غير مسلمة بل غير صحيحة، لأن أدنى مراتب السبب أن يكون ملائماً للمسبب، وهو منتفٍ بين الصلاة والوقت قطعاً.

ولأن السبب لا يجوز أن يكون كل الوقت لوجوب الصلاة لمن صار أهلاً لها في آخر الوقت، ولا البعض المعين منه لصحة الأداء ممن أقامها في غير ذلك الجزء المعين مطلقاً لعدم وجوب أدائها ولا قضائها ولا الفدية عنها على من اعترضه عدم الأهلية في آخر الوقت، من موت أو جنون مطبق أو حيض أو نفاس، ولا الجزء المقارن للأداء لوجوب قضائها المساهل الذي لم يشرع فيها قط، بل تعطل في الوقت كله. . .

مع أن الجزء المقارن ليس له تقدم على الصلاة أصلاً، فكيف يكون سبباً موجباً لها ومؤديا إليها (٢) .

وبالجملة جعل الوقت سبباً للعبادة، بما هو وقت؛ غير معقول.

ثم لا شك أن الوقت متحقق في حق من ليس بأهل للصلاة لاشتماله على أحواله، مع عدم الوجوب عليه، فينقدح من ذلك: أن السبب أو مرور الوقت. . .

- فقد ذهب الفقهاء المتقدمون والعلماء المحققون من مشايخنا إلى أن سبب وجوب العبادات تتالي نعم الله تعالى، وتواتر إنعامه وإحسانه إلينا في كل وقت، ومن كل وجه، وعلى كل حال.

فإنه سبحانه أسدى لعباده من أنواع البر والنعم وأصناف الفضل والكرم ما يعجز العقول عن عده والإحصاء عن الوصول إلى حده، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: ٣٤] ، فأوجب سبحانه عليهم العبادات بعد إتيانهم بما يجب تقديمه من الإيمان والإقرار بالصانع القادر المختار شكراً لما منحهم من باهر نعمه، وغمرهم بعظيم فضله ووافر كرمه، ليفوزوا بجواره وينقذوا من ناره. . . إلى أن قال: ثم النعم لما كانت غير داخلة تحت الضبط والإحصاء والوقت ظرفاً لحدوثها، أديرت الصلوات معه ووزعت على أوقاتها تيسيراً للعبادة، وإقامة للظرف مقام المظروف، وهو مراد من قال: إن الوقت سبب لها نسبة لما هو للحال إلى المحل على طريق المجاز العقلي، كقوله: سار الركب، وسال الوادي، وليس أنه سبب حقيقة. . .

ثم إن الوقت مقدار محدود من زمان غير محدود، وهو أمر بديهي الأنية وإن كان خفي اللمية. إن الزمان هو مقدار متجدد غير قار، فلتجعله ما شئت وسمه به. . .


(١) المرجاني شهاب الدين، ناظورة الحق، ص ١٤٨.
(٢) المرجاني شهاب الدين: ناظورة الحق، ص ١٠٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>