للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذا فهمنا هذه القضايا فيمكننا تحرير مجالات الإفادة من العمل الفقهي فيما يلي:

أولًا – تقنين الفقه:

وهو أن تصاغ الأحكام الفقهية على شكل مواد قانونية، تعالج كل قضية من القضايا الحيوية في المجال الذي توضع له.

وليس تقنين الفقه هذا إلا شكلا من أشكال العمل الفقهي تميزه الصورة القانونية التي يطرح بها، والطريقة القانونية التي تنفذ بها أحكامه، لا سيما إذا كان الفقه بهذا الطرح يمنع من الزلل الذي قد يقع فيه قليلو الدراية بالأحكام الشرعية.

ولذا من الممكن في إطار إدراج العمل الفقهي ضمن عملية التقنين هذه أن يعتمد: إما على الأمور المعمول بها في العصر الذي تتم به هذه العملية، أو على بعض الأعمال التي يجري التعديل فيها بما يتفق مع مقتضيات كل عصر ومكان.

ولو نظرنا إلى كل من مختصر البسيوي ومختصر الخصال لوجدناهما قانونا فقهيا مميزا سبق القانون الدولي الحاضر في سائر مجالات الفقه، وخاصة كتاب مختصر الخصال، فعباراته أشبه بالمواد القانونية، ولنأخذ عليه مثالا:

"باب ذكر بيان ما يستحق الفقير والمسكين من الصدقة

قال أبو إسحاق: والذي يستحق به الفقير والمسكين من الصدقة ثلاث خصال، أحدها: أن يكون مسلما، والثاني: أن يكون حرا، والثالث: أن لا يكون في ملكه قيمة نصاب من المال يكون به غنيا، وقيل خمسين درهما.

باب ذكر بيان ما يستحق به العامل من الصدقة.

قال أبو إسحاق: والذي يستحق به العامل من الصدقة خمس خصال: أحدها: أن يكون رجلا بالغا، الثاني: أن يكون عاقلا، الثالث: أن يكون مسلما، الرابع: أن يكون عاملا لإمام عادل، الخامس: أن يكون حرا. .

باب بيان ما يستحق به المؤلفة من الصدقات

قال أبو إسحاق: والذي يستحق به المؤلفة من الصدقات ثلاث خصال، أحدها: أن يكون رجلا حرا بالغا عاقلا، الثاني: أن يكون مسلما، الثالث: أن يكون الإمام محتاجًا إليه في الوقت " (١)

هذا، وينبغي أن تراعي في مسألة التقنين جملة أمور:

١- أن يكون التقنين وفق الأدلة الشرعية المستمدة من مصادر التشريع الإسلامي، فلا يجوز أن يكون مجال استمدادها من غير هذه المصادر، وأن يكون لكل من العرف والمصلحة المرسلة حظ من النظر كبير في بيان الفتوى وإصدار الحكم الشرعي.

٢- أن يكون التقنين أو الاختيار موكولًا إلى فقهاء وعلماء يميزون الشرعية، ويدركون كيفية الترجيح عند تعارض الأدلة أو عند اصطدام الأدلة بالواقع ويفهمون مقاصد الشريعة المعروفة التي يتم إصدار الحكم الشرعي أو النازلة المعينة في ضوئها.

وهذا ما نشهده في العمل الفقهي الذي استغرقنا تاريخه عند الإباضية، إذا صدر من علماء أجلاء، وكتاب (ديوان الأشياخ) أو (ديوان العزابة) خير مثال لهذا المعنى.

٣- بروز دور مجتهد العصر أو المكان الذي يراد صياغة الفقه فيه، والرجوع إليه في المسائل التي يصل اجتهاده فيها إلى حكم معين نهائي، كما هو الحال في سائر الأعمال الفقهية.

وإغفال هذه الأمور الثلاثة من أكبر المآخذ على كثير من القوانين التي تنظم الأحكام الفقهية، إذ المسألة مسألة شرع وبيان مراد الله فيما يخص تلك المسائل.

٤- ينبغي أن يكون التقنين شاملا لكل مناحي الحياة التي تحكمها سائر الأبواب الفقهية، من عبادات ومعاملات وحدود ودعاوى وغير ذلك، لأن الدين كل لا يتجزأ، وأن تدخل النوازل الحادثة ضمن هذا التقنين من حيث العمل والاجتهاد إلى معرفة الحكم الشرعي منها، وإدراجه ضمن القانون المراد طرحه.


(١) مختصر الخصال، ص ١١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>