للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بخلاف الصنائع فإن الشركة فيها محمودة من أجل توفير حاجات توفير حاجات الناس وخفض الأثمنة وضمان تزويد السوق بما يطلبه الجمهور، فكل من ينتج شيئًا، أو يحس حرفة إنجاز ذلك واجبًا عليه، إذا احتاج الناس إلى عمله، وعليه أن يفوته لهم بثمن المثل ولا يستغل حاجتهم، فيطلب ربحًا خياليًا، ولا يستغلون ضعفه، ويفرضون عليه البيع بثمن أقل من ثمن المثل حسب تقلب أحوال السوق.

وأثناء تحليل أحوال السوق، وأنواع سبل حكم التسعير تعرض ابن القيم لقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ابن اللتبية المشهورة، وملخصها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كلف ابن اللتبية بجمع صدقات بني سليم، فلما قدم حاسبه النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الرجل يقول: هذا مالكم، وهذا هدية أهديت لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وخطب في الناس وقال: ((إني لأستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي)) إلى آخر الحديث الذي رواه الشيخان، والموضوع الذي من أجله سيق هنا هو التذكير بأن لولي الأمر نزع أي ملك استحوذ عليه الإنسان من طريق غير مشروع سواء بعوض أو بغير عوض، وأحرى إذا كان ربحًا أتاه من قبل نفوذه أثناء قيامه بالولاية لبعض أمور المسلمين.

ومن خلال الحديث عن أمور التسعير تعرض ابن القيم الجوزية لمراقبة الربح عن طريق المزارعة فقال: ومنهم من احتج ((بأن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن المخابرة)) ، ولكن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم هو الظلم، فإنهم كانوا يشترطون ما على المذيانات وإقبال الجداول وشيئًا من التبن يختص به صاحب الأرض ويقتسمون الباقي.

وهذا الشرط باطل بالنص والإجماع فإن المعاملة مبناها العدل من الجانبين وهذه المعاملة من جنس المشاركة لا من باب المعاوضة، وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المشاركة العادلة هي أن يكون لكل واحد من الشريكين جزء شائع، فإذا جعل لأحدهما شيء مقدر كان ظلمًا، وإن صدق التاجر رزقه الله من حيث لا يحتسب، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للتاجر الصدوق بنزول البركة، وما قصة عروة بن أبي الجعد إلا تكريس لنظرة الإسلام المشجعة للتجارة الصادقة، ففي الموطأ عن عروة بن أبي الجعد، قال عرض للنبي صلى الله عليه وسلم، جلب فأعطانى دينارًا فقال: ((أي عروة إيت الجلب فاشتري لنا شاة)) فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت منه شاتين بدينار فجئت أسوقهما - أو قال: أقودهما - فلقينى رجل فساومنى فبعت شاة بدينار، فجئت بالدينار وجئت بالشاة فقلت: يا رسول الله، هذا ديناركم وهذه شاتكم، وقال: ((وصنعت كيف؟)) فحدثته الحديث فقال: ((اللهم بارك له في صفقة يمينه)) ، فلقد رأيتنى أقف بكناسة الكوفة، فأربح أربعين ألفًا قبل أن أصل إلى أهلي، وكان يشتري الجواري ويبيع ويهم هذا البحث أن نبين أن كل ربح نتج عن إذعان أو اشتراط شرط ظالم مهما كان مصدره الشركة ... أو بيع البراءة، أو النجش أو الغش، أو التدليس، أو الغبن، أو بيع المحرمات، فإن الفقه الإسلامي لا يقره كربح، ولا نرى أن في ذكرنا لهذه الأشياء مرة ثانية هنا تكرار مشينًا لأنها تتعلق دائمًا بالثمن الذي هو محل التسعير.

<<  <  ج: ص:  >  >>