للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كما أشرنا سابقًا فإن الليونة التي نشاهدها أثناء التشريع التدريجى لم تكن تشكل المرحلة النهائية من الأمر بينما مفهوم " التقرير " الذي نتناوله الآن سوف يطالعنا بنتائج أكثر حسمًا ووضوحًا في هذا الميدان: إن السنة التي تشكل المصدر الثاني في التشريع الإسلامي بعد القرآن لم تكن عبارة عن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وتصرفاته وأفعاله، وإنما تتضمن تقريراته صلى الله عليه وسلم أيضًا وهذه التقريرات هي الأمور الاجتماعية الواقعية – ومنها الأعراف والعادات – التي كانت موجودة من قبل في المجتمع فأقرها الرسول صلى الله عليه وسلم، واستصوب ديمومتها واستمراريتها (١) والحق أنه يمكن أن نأتي بأمثلة كثيرة وقائمة طويلة للأعراف والعادات التي كانت موجودة قبل الإسلام في المجتمع العربي فقبلها الإسلام ورضي باستمراريتها ولم يرفضها في ميدان التشريع (٢) فمن الممكن أن نذكر كمثال حي عقدي المضاربة والسلم لتلك العادات التي كانت موجودة في البيئة التي عاش فيها النبي صلى الله عليه وسلم والتي أقرها الإسلام (٣) إذن، نستطيع أن نقول أن التشريع الإسلامي لم يكتف فقط بعدم مواجهة الوقائع الاجتماعية التي لم تضاد الإسلام، وإنما عمل أيضًا من أجل إكسابها مشروعية في الحياة العملية (٤) .

وبما أننا سنتناول في الباب الثاني موقف مذاهب الفقه الإسلامي إزاء العرف والعادة وأدلة من يعتبرها مصدرًا من مصادر التشريع في الفقه الإسلامي، نكتفي هنا بالقول إن المبادئ العامة للتشريع الإسلامي وكذا الحلول والنتائج الفقهية التي توصل إليها فقهاء الإسلام الذين يعملون في إطار تلك المبادئ، تعكس نظرة إيجابية للأعراف والعادات التي هي عبارة عن قواعد السلوك الاجتماعي، ما دامت لا تتعارض والمبادئ الإسلامية والحق أنه يمكن لنا أن نلاحظ في المؤلفات الفقهية الإسلامية عبارات تفيد أن في نزع الناس عن عاداتهم حرجًا عظيما (٥) ، دون أن تقابل باعتراض وكذلك، أئمة المذاهب الفقهية، فإنهم – ولو لم يعبروا نظريا عن قيمة الأعراف والعادات في التشريع الإسلامي – إلا أنه لا يمكن أن نتصور بأنهم استغنوا تمام الاستغناء في حلولهم الفقهية عن أعراف وعادات البيئات التي عاشوا فيها، بل على العكس من ذلك، فإننا عندما نلقى نظرة على التاريخ الفقه الإسلامي نرى أن المسائل المستحدثة في العراق الذي تسود فيه العادات الفارسية والنبطية تعرض على أبي حنيفة وأمثاله، وأن المسائل المستحدثة في الشام الذي تسود فيها العادات القديمة من قبطية وبزنطية ونحوها تعرض على الشافعي والليث بن سعد وأمثالهما وأن هؤلاء الأئمة كانوا يبذلون قصارى جهدهم للتوصل إلى الحلول الحقوقية مراعين في تلك العادات والتقاليد (٦) .


(١) HAMIDULLH) Muhammed) , “La philosophie juridique chez les Musulmans”، Annales de la Faculte de Droit distambul. ١٩٦٨,٢٩-٣٢,p١٤٠.
(٢) HAMIDULLH) Muhammed) , Joufersanslar) Orfve Adet) محاضرات (العرف والعادة) في كلية العلوم الإسلامية بأرضروم (تركيا) مترجمة إلى اللغة التركية) مترجم: (Aksu, Zahir) ، ص ٥ انظر أيضا عنوان: " السنن التي كانت الجاهلية سنتها بأبقى الإسلام بعضها وأسقط بعضها " من " كتاب المحبر " لمحمد حبيب (المتوفى سنة ٢٤٥هـ) ، تصحيح: إيلزه ليحتن شتيتر ومحمد حميد الله حيد آباد الدكن "، ١٩٤٢م، ص ٣٠٩ وما بعدها.
(٣) الزيلعي، تبين الحقائق شرح كنز الدقائق مصر، ١٣١٥هـ، ٥ /٥٢، ٥٣.
(٤) نفس المكان من المحاضرات المذكورة HAMIDULLAH.
(٥) انظر مثلًا ابن عابدين، رسالة نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف (في مجموعة الرسائل) ، استانبول، ١٣٢٥هـ، ٢ /١١٣-١١٨، ولعبارة قريبة منها، انظر: السرخسي، المبسوط، مصر ١٣٣١هـ، ١٣ /١٤، ١٥.
(٦) أحمد أمين، ضحى الإسلام، القاهرة، ١٩٥٢م، ٢ /١٦٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>