للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عندما نلقي نظرة عامة إلى الخطوط العامة لمبادئ المذاهب الاجتهادية يمكن أن نتوقع كنتيجة طبيعية أخذ العرف مكانًا متميزًا وخاصا في الفقه الحنفي، ومع ذلك فإننا لا نكاد نشاهد حتى في كتب أصول الفقه الحنفية خطوات جريئة لبيان موقف واضح وصريح تجاه العرف والعادة ويمكن أن نشير كمثال لذلك التردد الذي نجده عند الجصاص (م. سنة ٣٧٠ /٩٨٠) إزاء العرف في كتابه الذي يعتبر كأول كتاب وصل إلينا في ميدان علم أصول الفقه من بين الكتب الحنفية (١) : نراه عندما يعرف الاستحسان في هذا الكتاب – عارضًا الاستحسان بشكليه – يبين إمكانية تحقق الشكل الثاني) تخصيص الحكم مع وجود (العلة بواحد من أسباب خمسة ومنها " عمل الناس "، ولكنه مع ذلك لا يجعل عمل الناس سببًا مستقلًا للاستحسان أثناء تفريقه أقسام الاستحسان عن بعضها البعض كل على حدة وإن كان لا يهمل دور عمل الناس عند إيراده أمثلة لكل من أقسام الاستحسان (٢) أما الأصوليون الذين جاؤوا من بعده، فنراهم لا يستسيغون جعل نمط خاص للاستحسان بسبب العرف (٣) ، إزاء هذا التحاشي الملحوظ في كتب أصول الفقه، فإننا نشاهد بكل سهولة توضيحات متعددة في كتب الفروع حول تحقق الاستحسان بسبب العرف (٤) حتى أنَّ المؤلف نفسه في الوقت الذي يجعل العرف سببًا للاستحسان في كتابه المتعلق بالفروع يحتزر عن ذكر ذلك في كتابه الخاص بعلم أصول الفقه (٥) وإلى جانب ذلك، يجدر بنا أن نلفت النظر إلى أننا لا نكاد نعثر على عناوين مستقلة في كتب علم الأصول لتناول العرف سواء بصفة إيجابية أو سلبية بينما نجد عناوين سلبية لبعض الأدلة الأخرى التي اختلف في اعتبارها الأصوليون مثل الاستحسان والاستصلاح (٦) .


(١) فعلى الرغم من أن أول كتاب وصل إلينا باسم " الأصول " في الفقه الحنفي هو كتاب الكرخي (المتوفى سنة ٣٤٠هـ /٩٥١م) المسمى " بالأصول التي عليها مدار فروع الحنفية "، لم يكن في الحقيقة كتابًا يتعلق بأصول الفقه – على خلاف ما ظنه بعض الكاتبين – وإنما هو رسالة صغيرة تضم ٣٩ قاعدة عامة سائدة في الفقه الحنفي (مطبوع في مصر مع " تأسيس النظر " للبوس) أما " أصول الشاشي " (م. ٣٤٤هـ) فلا يتناول إلا الأدلة الأربعة (بيروت ١٩٨٢م) بما أن الطبعة المحققة لكتاب الجصاص لم تكن في متناول يدنا أثناء القيام بإعداد البحث اعتمدنا على النسخة المخطوطة له يقول محقق الكتاب الدكتور عجيل جاسم النشمي بشأن أصول الجصاص: " بل يكاد يكون أول كتاب في أصول فقه الأحناف يصل إلينا في شكل كتاب متكامل منسق مترابط ": ١ /٤ (الكويت، ١٩٨٥م)
(٢) الجصاص، أصول الفقه، مخطوط بدار الكتب المصرية رقم ١٢٩، ق. ٢٩٤/ ب – ٢٩٨/ ب.
(٣) انظر على سبيل المثال: الدبوسي تقويم الأدلة، مخطوط بمكتبة سليمانية باستانبول (قسم لعله لي) رقم ٦٩٠. ق. ٢٢٥/ب. وما بعدها؛ البزدوي، كنز الوصول إلى معرفة الأصول، استانبول، ١٣٠٨هـ، ٤ /٥/ ٦؛ السرخسي، أصول السرخسي، تحقيق: أبو الوفاء الأفغاني، بيروت، ١٩٧٣، ٢ /٢٠٢، ٢٠٣ هذا لا يعني أن كتب الأصول كلها لا يستعمل فيها أبدًا تعبير " الاستحسان لسبب العرف "، انظر مثلًا: الغزالي، المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق: محمد حسن هيتو، دمشق، ١٩٨٠م، ص ٣٧٣؛ الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، القاهرة، ١٩٦٧م، ٤ /١٣٦؛ الشاطبي، المرافقات في أصول الشريعة، مصر، بدون تاريخ (بتعلقيات الشيخ عبد الله دراز) ، ٤ /٢٠٧، ٢٠٨.
(٤) انظر مثلًا: السرخسي، المبسوط، ١٢ /٤٦، ١٥٩؛ الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع بيروت، ١٩٧٤ م (بالأوفست) ، ٧ /٣٩٥.
(٥) انظر السرخسي، المبسوط، ١٢ /١٥٩ و " أصول السرخسي "، له، ٢ /٢٠٢، ٢٠٣.
(٦) انظر مثلًا: الغزالي، المستصفى: ١ / ٢٤٥ – ٣١٥؛ الآمدي، الأحكام: ٤ / ١٢١ – ١٤٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>