للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما الرأي والتعليل فهو ما عبر عنه الكاساني بقوله: ولأنها عقد تبرع فلو صحت بدون القبض لثبت للموهوب له ولاية مطالبة الواهب بالتسليم، فتصير عقد ضمان، وهذا تغيير المشروع" (١) .

واستدل أصحاب الرأي الثاني بالسنة والآثار والقياس:

أما السنة فهي الأحاديث الصحيحة الدالة على حرمة الرجوع عن الهبة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس لنا، مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه)) (٢) ، وقوله: ((العائد في هبته كالعائد في قيئه)) . (٣) ، وقد عقد البخاري له بابًا سماه: "باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته " (٤) ، وعلق عليه الحافظ فقال: كذا بتّ الحكم في هذه المسألة لقوة الدليل عنده فيها" (٥) ، ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث في الدلالة على حرمة الرجوع واضح، فكما أن القيء محرم، ولا يجوز أكله فكذلك الهبة، يقول الحافظ: "ولعل هذا أبلغ في الزجر عن ذلك، وأدل على التحريم بما لو قال مثلًا: "لا تعودوا في الهبة" (٦) ، وهذه الأحاديث مطلقة ليس فيها ذكر القبض فتبقى على إطلاقها، وحينئذ تكون الهبة ملزمة بمجرد العقد دون الحاجة إلى القبض.

وأما الآثار في ذلك فواردة عن بعض الصحابة والتابعين، حيث روى عبد الرزاق بسنده عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما حيث كانا يجيزان الصدقة وإن لم تقبض، وكذلك روى مثله عن إبراهيم وسفيان (٧) .

وأما القياس فهو قياس الهبة ونحوها من الصدقة على الوصية في أنها عقد تبرع بتمليك شيء مع أنها تفيد الملك قبل القبض وتلزم بعد الموت وإن لم يقبض الموصى به ما دام الإِيجاب والقبول قد صدرا من العاقدين (٨) .

واستدل أصحاب الرأي الثالث بأن الهبة بلا شك من عقود التمليك وإن كانت بدون مقابل، ولذلك كان منها ما لا يلزم قبل القبض، ومنها ما يلزم قبله كالبيع حيث إن فيه ما لا يلزم قبل القبض وهو الصرف وبيع الربويا، ومنه ما يلزم قبله وهو ما عدا ذلك (٩) .

واستدل ابن أبي ليلى ببعض الآثار الواردة عن بعض الصحابة مثل عمر، وعلي رضي الله عنهم حيث أجازوا الصدقة قبل القبض، ولم يجيزوا الهبة إلا مقبوضة (١٠) .


(١) بدائع الصنائع: ٨/٣٦٨٨.
(٢) صحيح البخاري – كتاب الهبة – مع الفتح: ٥/٢٣٤-٢٣٥.
(٣) صحيح البخاري – كتاب الهبة – مع الفتح: ٥/٢٣٤-٢٣٥.
(٤) صحيح البخاري – كتاب الهبة – مع الفتح: ٥/٢٣٤-٢٣٥.
(٥) فتح الباري: ٥/٢٣٥.
(٦) فتح الباري: ٥/٢٣٥.
(٧) المصنف: ٩/١٢٢ – ١٢٣.
(٨) يراجع: بدائع الصنائع: ٨/٣٦٨٨.
(٩) المغني لابن قدامة: ٥/٦٥٣.
(١٠) بدائع الصنائع: ٨/٣٦٨٨، والمصنف لعبد الرزاق: ٩/١٢٠، ١٢٢ - ١٢٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>