للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونقصد بذكر هذه الصور أن مسلك هؤلاء المانعين منعًا مطلقًا ليس عامًّا، وسائرًا على طريقة واحدة، فهم كلهم، أو بعضهم أجازوا هذه الصور أو بعضها مما يضعف مسلكهم، بل إن تعليلهم يضعف الملك قبل القبض، وحتى لا يؤدي إلى توالي الضمانين ليس مقنعًا، ولا مسلمًا على إطلاقه، وأنه لا يوجد في الشرع، ولا في العقل مانع من كون الشيء مضمونًا على الشخص بجهة، ومضمونًا له بجهة أخرى، ولذلك يقول مالك وأحمد في المشهور من مذهبه: ما يمكن المشتري من قبضه وهو المتعين بالعقد فهو من ضمان المشتري، وحينئذٍ له الحق في التصرف فيه، بالإِضافة إلى أن جواز التصرف ليس ملزمًا للضمان (١) .

ثم إن الذي تقتضيه القواعد العامة لشريعتنا الغراء هي أن العقود – ولا سيما المالية – تتم، وتلزم بالإِيجاب والقبول – مع بقية الشروط المطلوبة – وبالتالي تترتب عليها الآثار الشرعية فلا ينبغي الاستثناء منها إلا ما يدل الدليل الصحيح الصريح على استثنائه، وفي نظرنا فهذا محصور في الطعام فلا يجوز بيعه ولا التصرف فيه قبل القبض، وفيما عداه يبقى على القاعدة العامة والله أعلم. ثم إن لفظ "الطعام" قد ثار حوله الخلاف في بيان ماهيته وحقيقته، حيث ذهب بعضهم إلى أن المراد به هو الحنطة فقط وذهب آخرون إلى أن المراد به هو ما يعد في العرف للأكل والاقتيات، يقول ابن منظور: "وأهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به البر خاصة ... وقال ابن الأثير: الطعام عام في كل ما يقتات من الحنطة، والشعير، والتمر وغير ذلك، وذهب بعضهم إلى أن المراد به التمر فقط" (٢) ، وقد ورد لفظ "طعام" في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري في مقابل "شعير" مما يدل على أنه غيره حيث قال: "كنا نعطيها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب" (٣) . قال الحافظ: "حكى الخطابي أن المراد بالطعام هنا الحنطة، وأنه اسم خاص له، قال: ويدل على ذلك ذِكرُ الشعير وغيره" (٤) ، لكن ابن المنذر رد عليه، واستشهد بقول أبي سعيد الخدري: "كنا نُخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعًا من طعام، وكان طعامنا الشعير والزبيب والأَقِط والتمر" (٥) ولذلك فالراجح هو أن الطعام يشمل كل ما يعد للقوت سواء أكان حنطة أم غيرها.


(١) شرح ابن القيم على سنن أبي داود: ٩/٣٨٦، الفروق: ٣/٢٨٢، ٢٨٣، وبدائع الصنائع: ٨/٣١٠١، والمجموع شرح المهذب: ٩/٢٧٠، ٢٧١، والمغني لابن قدامة: ٤/١٢١.
(٢) لسان العرب، ط. دار المعارف ص ٢٦٧٣، مادة (طعم) .
(٣) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب الزكاة: ٣/٣٧٢.
(٤) يراجع تفصيله في فتح الباري: ٣/٣٧٣، ٣٧٥.
(٥) صحيح البخاري – مع الفتح – ٣/٣٧٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>