للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لكنه ليس من شرط كتابنا، وإنما أملينا هذه النبذة استطراداً تبركاً بذكرهم ونموذجاً لما تركنا من سيرهم، والله الموفق من أراد، لا ربّ غيره.


= مثقال الذرة حسنة يضاعف ثوابها وعطي صاحبها من عنده على سبيل التفضل زائداً على ما وعد في مقابلة العمل عطاء جزيلاً، فكيف حال هؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم (بشهيد) يعني نبيهم يشهد على فساد عقائدهم وقبح أعمالهم، وجئنا بك يا محمد تشهد على صدق هؤلاء الشهداء لعلمك بعقائدهم واستجماع شرعك مجامع قواعدهم. يود الكفرة والعصاة أن يدفنوا فتسوى بهم الأرض كالموتى، أو لم يبعثوا أولم يخلقوا وكانوا هم والأرض سواء لا يقدرون على كتمان العصيان، لأن جوارحهم تشهد عليهم أهـ. الله أكبر عروس القيامة يسطع نوره شاهداً وشفيعاً. لماذا؟ لزهده في الدنيا وطاعة ربه فبلغ الرسالة وأدى الأمانة وأخلص لربه، ويعجبني قول النسفي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ سورة النساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله [وجئنا بك على هؤلاء شهيداً] فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال حسبنا أهـ، نعم حسبه.
وفقنا الله للعمل بكتاب الله وسنته إنه قدير.
وفي بيان الزهد وآدابه حديث عمر رضي الله عنه رواية الترمذي وابن ماجة قال لما نزل قوله تعالى [والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم] قال صلى الله عليه وسلم تباً للدنيا تباً للدينار والدرهم فقلنا يا رسول الله نهانا الله عن كنز الذهب والفضة؛ فأي شيء ندخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم ليتخذ أحدكم لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً وزوجة صالحة تعينه على أمر آخرته. ويبين الغزالي درجات الزهد:
(١) وهي السفلى أن يزهد في الدنيا وهو لها مشته وقلبه إليها مائل ونفسه إليها ملتفتة، ولكنه يجاهدها ويكفها.
(٢) الذي يترك الدنيا طوعاً لاستحقاره إياها بالإضافة إلى ما طمع فيه.
(٣) العليا أن يزهد طوعاً ويزهد في زهده. وأما انقسام الزهد بالإضافة إلى المرغوب فيه:
(١) السفلى أن يكون المرغوب فيه النجاة من النار، ومن سائر الآلام كعذاب القبر ومناقشة الحساب.
(٢) أن يزهد رغبة في ثواب الله ونعيمه واللذات الموعود بها في جنته من الحور والقصور.
(٣) العليا أن لا يكون له رغبة إلا في الله؛ وفي لقائه فلا يلتفت قلبه إلى الآلام ليقصد الخلاص منها ولا إلى اللذات ليقصد نيلها والظفر بها، بل هو مستغرق الهم بالله تعالى، وهو الذي أصبح وهمومه هم واحد، وهو الموحد الحقيقي الذي لا يطلب غير الله تعالى، لأن من طلب غير الله فقد عبده، وكل مطلوب معبود وكل طالب عبد بالإضافة إلى مطلبه، وطلب غير الله من الشرك الخفي، وهذا زهد المحبين وهم العارفون لأنه لا يحب الله تعالى خاصة إلا من عرفه. وأما انقسامه بالإضافة إلى المرغوب عنه:
(١) كل ما سوى الله فينبغي أن يزهد فيه حتى يزهد في نفسه.
(٢) أن يزهد في كل صفة للنفس فيها متعة.
(٣) أن يزهد في المال والجاه كما قال تعالى:
أ -[زين للناس حب الشهوات] من سورة آل عمران.
ب -[إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة] من سورة الحديد.
جـ -[ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى (٤١)] من سورة النازعات. والهوى حظوظ النفس.
د -[قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل] من سورة النساء.
الزاهدون المحبون لله تعالى فقاتلوا في سبيل الله كأنهم بنيان مرصوص، وانتظروا إحدى الحسنيين، وكانوا إذا دعوا إلى القتال يستنشقون رائحة الجنة ويبادرون إليه مبادرة الظمآن للماء البارد، حرصاً على نصرة دين الله أو نيل رتبة الشهادة، وكان من مات منهم على فراشه يتحسر على فوت الشهادة حتى إن خالد بن الوليد رضي الله عنه لما احتضر الموت على فراشه كان يقول: كم غزوت بروحي وهجمت على الصفوف طمعاً في الشهادة، وأنا =

<<  <  ج: ص:  >  >>