ومساء بابا بابا، بقدر فراغك من عملك، فهنا تتجلى الموعظة الحسنة، وتشرق الحكمة من جوانبه، ويزيدك الله نورا على نور. ولا غرو فيحكى عنه تاج الدين السبكى أنه درس بالقاهرة في دار الحديث الكاملية وكان لا يخرج منها إلا لصلاة الجمعة حتى إنه كان له ولد نجيب محدث فاضل. توفاه الله في حياته ليضاعف له حسانته، فصلى عليه الشيخ داخل المدرسة وشيعه إلى بابها، ثم دمعت عيناه. وقال أودعتك يا ولدى الله، وفارقه أهـ.
ما شاء الله، يعتكف في داره للعباده والعلم حتى لا يخرج لتشييع جنازة ابنه.
أيها المسلمون أنشدكم الله أن تجعلوا كتاب (الترغيب والترهيب) سميركم ومرشدكم، لأن صاحبه كان يخشى الله ويتقى الله ويعمل لله، قال تعالى (واتقوا الله ويعلمكم الله) وأعتقد أن الإخلاص رائده ومحبة الله ورسوله وجهته وغاية مطلبه، إذا لا بدّ أن ينفع العلم منه ويصل إلى القلوب الظمآنة فيزيل ظمأها ويبعد أوارها.
يحدّثنا عن شدة خوفه من الله والعمل بعلمه سيدنا تاج الدين السبكى إذ يقول:
(سمعت من أبى رضي الله عنه يحكى عن الحافظ الدمياطي أن الشيخ المنذري مرة خرج من الحمام وقد أخذ منه حرها فما أمكنه المشى فاستلقى على الطريق إلى جانب حانوت، فقال له الدمياطي يا سيدى - أنا أقعدك على مصطبة الحانوت - وكان الحانوت مغلقا، فقال (وهو في تلك الشدة: بغير إذن صاحبه كيف يكون)؟ ومارضى.
فكّر في هذا الحادث أيها القارئ، شيخ يمتنع أن يجلس أمام الحانوت ليستريح من تعبه لأن صاحبه لم يرض. مع أن الحانوت مغلق ولم يعطل أي حركة تجارية أو مصلحية، لا تعجب فإن في هذه نصوص العلم وتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يتهاون العالم في الصغيرة خشية أن تجرّ إلى الكبيرة، ولا فتوى يحلها ولا تدليل أو تأويل أو تسهيل يتمشدق به.
فلست أرى السعادة جمع مال ... ولكن التقى هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخرا ... وعند الله للأتقى مزيد
روى الإمام الغزالي عن عالم في الدولة الأموية جاء إليه محمد بن سليمان فلم يجد في داره غير حصير وراوية وخريطة: حصير يجلس عليه وراوية يتوضأ منها وخريطة يضع فيها كتبه، فقال للعالم ما لى أراك أزداد هيبة؟ فقال له ذلك العالم: معنى حديث (من خاف اللهَ خوّف اللهُ منه كل شئ، ومن خاف غير الله أخافه الله من أىّ شئ) بمعنى أن الله يحفظ من يخشاه ويملأ قلبه إيمانا به، فلا سلطان لغير الله عليه، ومن لم يخف الله يزداد فزعا من أقل شئ،