سادساً: أن يستصغر العطية فإنه إن استعظمها أعجب بها، والعجب من المهلكات، وهو محبط للأعمال. قال تعالى: "ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً" ويقال: إن الطاعة كلما استصغرت عظمت عند الله عز وجل والمعصية كلما استعظمت صغرت عند الله عز وجل، وقيل: لا يتم المعروف إلا بثلاثة: تصغيره وتعجيله وستره. سابعاً: أن يطلب لصدقته من تزكو به الصدقة: (أ) فيطلب الأتقياء المعرضين عن الدنيا المتجردين للتجارة للآخرة. قال: "لا تأكل إلا طعام تقي ولا يأكل طعامك إلا تقي" لأن التقي يستعين به على التقوى فتكون شريكاً له في طاعته بإعانتك إياه. قال: "أطعموا الأتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين". (ب) أن يطلب أهل العلم خاصة فإن ذلك إعانة لهم على العلم، والعلم أشرف العبادات مهما صحت فيه النية. (جـ) أن يكون صادقاً في تقواه، وعلمه بالتوحيد، وتوحيده أنه إذا أخذ العطاء حمد الله عز وجل وشكره ورأى أن النعمة منه، ولم ينظر إلى واسطة فهذا هو أشكر العباد إليه سبحانه وتعالى، وهو أن يرى أن النعمة كلها منه، وفي وصية لقمان لابنه: لا تجعل بينك وبين الله منعماً، وإعداد نعمة غيره عليك مغرماً، ومن شكر غير الله سبحانه فكأنه لم يعرف المنعم، ولم يتيقن أن الواسطة مقهور مسخر بتسخير الله عز وجل إذ سلط الله عليه دواعي الفعل، ويسر له الأسباب، فأعطى وهو مقهور، ولو أراد تركه لم يقدر عليه بعد أن ألقى الله عز وجل في قلبه أن صلاح دينه ودنياه في فعله، والله تعالى خالق للبواعث ومهيجها ومزيل للضعف والتردد عنها، ومسخر للقدرة للانتهاض بمقتضى البواعث. وقد رويَ أن رسول الله أرسل صدقة لأحد الفقراء، فقال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره ولا يضيع من شكره، ثم قال: اللهم لم تنس فلاناً (يعني نفسه) فاجعل فلاناً لا ينساك (يعني بفلان نفسه) فأخبر فَسر، وقال: علمت أنه يقول ذلك: فانظر كيف قصر التفاته على الله وحده. (د) أن يكون مستتراً مخفياً حاجته لا يكثر البث والشكوى أو يكون من أهل المروءة ممن ذهبت نعمته وبقيت عادته فهو يتعيش في جلباب التجمل. قال الله تعالى: "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً" أي لا يلحون في السؤال لأنهم أغنياء يبقيهم أعزة بصبرهم، وهكذا ينبغي أن يتفحص عن أهل الدين في كل محلة، ويستكشف عن بواطن أهل الخير والتجمل، فثواب صرف المعروف إليهم أضعاف ما يصرف إلى المجاهرين بالسؤال. (هـ) أن يكون معيلاً أو محبوساً بمرض، أو سبب من الأسباب فيوجد فيه معنى قوله تعالى: "للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله" أي حبسوا في طريق الآخرة بعلة أو ضيق معيشة، وكان عمر رضي الله عنه يعطي أهل البيت القطيع من الغنم العشرة فما فوقها، وكان يعطي العطاء على مقدار العيلة. وسئل عمر رضي الله عنه عن جهد البلاء فقال: "كثرة العيال وقلة المال". (و) أن يكون من الأقارب وذوي الأرحام فتكون صدقة وصلة رحم. قال علي رضي الله عنه: لأن أصِلْ أخاً من إخواني بدرهم أحب إليَّ من أن أتصدق بعشرين درهماً ولأن أصله بعشرين درهماً أحب إليَّ من أن أتصدق بمائة درهم، ولأن أصله بمائة درهم أحب إليَّ من أن أعتق رقبة. أهـ. والأصدقاء وإخوان الخير يقدمون على المعارف كما يتقدم الأقارب على الأجانب، تلك صفات كبرى مطلوبة وذخيرة وغنيمة عظمى تشوقه إلى لقاء الله عز وجل. أهـ ص ١٩٨ جـ ١. =