والدليل على أنه غير واجب أنه من باب الظنون، والظنون في الشرع تنقسم إلى أنواع، فالظنون في الاعتقادات ممنوع منعًا تامًّا، والظنون في العمليات واجب العمل بها، وهذا معروف لأن معظم الأحكام العملية الشرعية مأخوذ فيها بالظن الغالب، أما الظنون في الأمور العادية، فإن الأمر فيها يبقى على دائرة الاستواء، فلا يرقى إلى درجة الوجوب، والدليل على ذلك - أيضًا - عمل الصحابة، فكثير من الصحابة أصيبوا بأمراض وبعضهم إما لم يأت بالطبيب، وبعضهم امتنع، وبعضهم رد الطبيب، وهذه حوادث معروفة، ولنا أن نستشهد أو نستأنس بامتناع النبي صلى الله عليه وسلم من أن يلد بالدواء حينما صار في حالة الاحتضار، فلا نستطيع أن نجزم في هذه الأمور المظنونة بأن نقول: إن المعالجة منها واجبة لأنها كما قلنا مظنونة والحديث نفسه يقول ((تداووا عباد الله فما من داء إلا أنزل الله له دواء، فإذا أصيب دواء الداء)) ، إذا أدرك ووقع الطبيب عليه. إذن الأمر في دائرة الظن، وأحيانًا التداوي فيه من المعاناة وفيه من الشدة أكثر من الداء، فكيف نجبر من به داء ممكن أن يحتمله ويعايشه أن يتداوى؟ نقول له: أنت مندوب لك ذلك، وكما قال الشاعر: وأخف من بعض الدواء الداء.
كذلك ينبغي أن يستثنى ما فيه تعدي الضرر إلى الغير، فإذا كان المرض معديًا أو متلفًا لغيره فهذا يجب عليه لأنه ((لاضرر ولا ضرار)) ، فإذا امتنع عن التداوي يجبر.
هناك أمر يجب أن يراعى أيضًا وهو الفرق بين الإنسان الذي يذهب إلى الطبيب بنفسه، (طبيب مثلًا خاص) ، والذي يتم في المستشفيات التي يعتبر فيها الأطباء موظفين وملزمين بعمل من ولي الأمر، حينما يأمر بالمباح يرقى هذا المباح إلى درجة الواجب، طبعًا ولي الأمر لا يستطيع أن يغير الأحكام وإنما طاعة ولي الأمر واجبة فيصبح هذا المباح في درجة الواجب، فإذا كان الأطباء ملزمين بحسب تعليمات ولي الأمر بأمور يجب أن يراعوا هذه الأمور من باب الواجب الوظيفي الذي يلزمهم.
نقطة ثانية: وهي مسألة بث الأمل في المريض وإبعاد شبح اليأس عنه، هذا طبعًا مطلوب حتى في الحالات التي يتيقن فيها أن سيتلف، وفي ذلك حديث شريف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل)) فإن ذلك يطيب نفسه ولا يغير من الأمر شيئًا - معنى الحديث - وهذا طبعًا قاعدة أساسية في هذا الباب، وهذا أيضًا متلائم ومنسجم مع عدم التيقن، فكما نتيقن بعدم الشفاء نتيقن بعدم التلف، فالطبيب هو رجل يبذل جهده، فهو لا يستطيع أن يقول: لا شفاء البتة، ولا يستطيع أن يقول: هناك تلف البتة، فلذلك ينبغي أن يفسح له في الأجل ويدخل عليه أو يديم لديه الأمل.