للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الهدنة:

ومن الآثار المترتبة على الجهاد كذلك أن يطلب الأعداء ترك القتال فترة من الفترات قد تنتهي إلى صلح، وهذا يسمى بعقد الهدنة , والموادعة إذا تم الاتفاق عليه، بل يضعها الإسلام موضع الوجوب في حالين يدلان على حرص الإسلام على إرساء السلم الدولي ـ كما أشرنا من قبل ـ.

أما الحالة الأولى فتكون مع طلب العدو فيجب أن يجاب إلى طلبه عملًا بقوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (١) .

وقد هادن الرسول صلى الله عليه وسلم مشركي مكة ووادعهم مدة عشر سنين في غزوة الحديبية , وكان ذلك حقنًا للدماء، ورغبة في السلم (٢) .

فعن البراء رضي الله عنه قال: ((لما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت صالحه أهل مكة على أن يدخلها فيقيم ثلاثًا، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح، السيف وجرابه (٣) , ولا يخرج بأحد معه من أهلها، ولا يمنع أحدًا يمكث بها ممن كان معه)) .

قال ((الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي اكتب الشرط بينا: بسم الله الرحمن الرحيم (٤) : "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله"، فقال له المشركون: "لو نعلم أنك رسول الله تابعناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فأمر عليًّا أن يمحوها فقال: "لا والله لا أمحوها" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرني مكانها" فأراه مكانها فمحاها وكتب ابن عبد الله، فأقام بها ثلاثة أيام.

فلما كان اليوم الثالث، قالوا لعلي: هذا آخر يوم من شرط صاحبك، فمره فليخرج فأخبره بذلك، فقال: "نعم" فخرج)) .

وعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا أسلال ولا أغلال (٥) .

والحالة الثانية التي تجب فيها المهادنة: الأشهر الحرم فلا يحل فيها البدء بالقتال إلا إذا بدأ فيها العدو بالقتال، فإنه يكون دافعًا للاعتداء، أو جاء وقت الأشهر الحرم وكان القتال مستمرًا ولم يستجب العدو لقبول الموادعة فيها، قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (٦) .


(١) سورة الأنفال: الآيتان ٦١ و ٦٢
(٢) فقه السنة: ٢/ ٦٥٩
(٣) بيان لجلبان السلاح
(٤) وفي رواية: ما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم
(٥) رواه البخاري ومسلم وأبو داود، والعيبة دعاء الثياب، ومكفوفة مربوطة محكمة، ولا أسلال ولا أغلال، أي لا سرقة ولا خيانة ـ انظر فقه السنة: ٢/ ٦٦٠
(٦) سورة التوبة: الآية ٣٦

<<  <  ج: ص:  >  >>