للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأصل الشرعي للمسؤولية:

قرر القرآن الكريم - وهو الأصل للتشريع الإسلامي –مبدأ المسؤولية المدنية فيما يتعلق بحق الله، بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: ٩٥] .

وقررها فيما يتعلق بحق الصيد وهو القتل الخطأ بقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: ٩٢] .

وقررت السنة النبوية المطهرة –وهي الأصل الثاني من أصول التشريع –مبدأ المسؤولية فيما يتعلق في حق الإنسان من عدة أوجه.

وإن الذي يهمنا منها ههنا، ما قررته على الطبيب الذي يعالج الناس، وهو ليس أهلاً للعلاج، فيتلف ما يعالجه.

وذلك ما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن)) . (١)

قال الإمام الخطابي في معالم السنن (٢) :

(لا أعلم خلافاً في المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامناً، والمتعاطي علماً أو عملاً لا يعرفه متعدي، فإذا تولد من فعله تلف، ضمن الدية، وسقط عنه القود؛ لأنه لا يستبد بذلك دون إذن المريض، وجناية الطبيب في قول عامة الفقهاء على عاقلته) اهـ.

وقال الإمام البغوي في شرح السنة: (٣)

إذا أخطأ الطبيب في المعالجة، فحصل منه التلف، تجب الدية على عاقلته.

قال الإمام البغوي: وكذلك من تطبب بغير علم. ثم روى حديث: ((من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)) .

هذا ومن تتبع السنة وقضاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه - رضوان الله عليهم - من بعده يجد كثيراً من جزئيات المسؤولية المدنية.

ونحن نكتفي بهذا القدر الذي يخص مسؤولية الطبيب مع ما ثبت من روايات متعددة عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: ((لا ضرر ولا ضرار)) . (٤) فإنه قاعدة كلية يرجع إليها في تطبيق جزئيات المسؤولية والمؤاخذة بها، وقد كانت هذه الوقائع وغيرها أساساً لقواعد عامة ثبتت عند الفقهاء كأصل من أصول الشريعة المسلم بها عند الجميع، ومن ذلك قولهم: (الضرر يزال) . (والضرر مرفوع بقدر الإمكان) ، (والضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام) ، وكان لهذه القواعد أثر كبير في تطبيق مبدأ المسؤولية عن الضرر، وكان لها في الوقت نفسه أثر بالغ في رفع المسؤولية كما قرروه في أكل الميتة للمضطر وإساغة اللقمة بالشراب المحرم، والتلفظ بكلمة الكفر للإكراه، وفي أخذ مال الممتنع عن أداء الدين بغير إذنه، وفي دفع الصائل أو المنتهب أو المتلصص أو الباغي. (٥)


(١) حديث حسن، أخرجه أبو داود في سننه، رقم (٤٥٨٦) في كتاب الديات: باب فيمن تطبب بغير علم. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. والنسائي في سننه (٨ / ٥٢، ٥٣) في القسامة في صفحة شبه العمد، وابن ماجه، والحاكم في المستدرك على الصحيحين (٤/٢١٢) ، وأقره الذهبي، وله شاهد مرسل في سنن أبي داود، حديث رقم (٤٥٨٧) بإسناد حسن فيتقوى به ويعتضد.
(٢) ٤/٣٩، ط حلب.
(٣) ١/٣٤١، ط المكتب الإسلامي بدمشق.
(٤) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (٦/٦٩ – ٧٠) ؛ والحاكم في المستدرك (٢/٥٨) ؛ وابن ماجة رقم (٢٣٤٠ – ٢٣٤١)
(٥) المسؤولية المدنية والجنائية، للمرحوم محمود شلتوت، ص ٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>