للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وترتيبًا على ما سبق إيضاحه بشأن رضائية التحكيم، فإن الاتفاق على التحكيم في منازعة معينة لا يتعدى إلى منازعة أخرى، والاتفاق على المنازعات الناشئة عن تنفيذ عقد معين، لا يستطيل إلى المنازعات الناشئة عن تنفيذ عقد آخر، والاتفاق على الاحتكام في تفسير عقد بعينه، لا ينصرف إلى ما ينشأ عن تنفيذ هذا العقد من منازعات؛ ذلك لأنه يجب أن يكون التحكيم مقصورًا على ما انصرفت إرادة المحتكمين إلى عرضه على المحتكم إليه، فإذا طرأت على النزاع الأصلي منازعات أخرى لم يتضمنها الاتفاق على التحكيم بصورة مباشرة أو ضمنية، فإنه لا يجوز للمحكم أن يحكم فيها، إلا إذا صدرت له بشأنها موافقة جديدة من الخصمين، حتى ولو كانت هذه المسائل الأولولية التي يتعين حلها قبل الفصل في النزاع، فالاتفاق على التحكيم بين الورثة في قسمة المال الموروث فمثلًا لا يمنح المحكم الحق في الفصل في نزاع ينشأ بين بعض الورثة المتحاكمين على ملكية بعض هذه الأموال، ولا يعطيه الحق في الحكم باعتبار هذه الأموال من المال الموروث أو عدم اعتبارها كذلك (١) .

ومن ناحية أخرى، فإن الرضا بالتحكيم لا ينتج أثره إلا في مواجهة من رضي به، أما غيره فلا أثر له عليه؛ لأنه لم يرض، ولأن من رضي لا ولاية له عليه، وذلك فإنه – على مذهب الحنفية – لا يحق للحكم أن يحكم على العاقلة بالدية (٢) ، وإذا تراضى على التحكيم دائن للمورث مع أحد الورثة، فلا أثر لذلك الرضا على باقي الورثة، ,إذا توفي أحد المحتكمين – قبل الشروع في التحكيم – فلا يلزم التحكيم الورثة إلا برضائهم، أما إذا حدثت الوفاة بعد الحكم، فإنه ينفذ في مواجهة الورثة في حدود تركة من كان قد رضي به، وإذا وجد عيب في المبيع الذي بيع عدة مرات، فتحاكم البائع الأخير والمشتري منه، وحكم المحتكم إليه بالرد، فلا أثر لذلك على البائع الأول الذي لم يرتض التحكيم، وإذا غاب أحد الخصمين، فلا يتعدى الحكم إليه، ولو كان ما يدعي به عليه سببًا لما يدعي به على الحاضر، فإذا تحاكم الكفيل والدائن، فلا أثر لاحتكامها على الأصيل الذي لم يحضر ولم يرض بالتحكيم، وذلك ما لم يشهد العرف بأن الغائب يعد راضيًا بالتحكيم، إذ يجوز في هذه الحالة الحكم عليه، وذلك على نحو ما طبقه فقهاء الأحناف على الشريك الغائب عند احتكام شريكه مع غريمهما؛ فقد قالوا: إن العرف بين التجار جرى على جعل التحكيم من أحد الشركاء كأنه تحكيم من سائرهم (٣) .


(١) البحر الرائق ج ٧ ص ٢٧ – الدكتور شوكت عليان – السلطة القضائية في الإسلام ص ٣٩٨
(٢) فتح القدير ج ٥ ص ٤٩٩؛ حاشية ابن عابدين ج ٥ ص٤٣١ ويرى الشافعية في الراجح من مذهبهم أن الدية لا تجب على العاقلة لعدم حصول الرضا فيها بالتحكيم، يقول الإمام محمد الخطيب الشربيني: (فلا يكفي رضا قاتل بحكمه على ضرب دية على عاقلته، بل لابد من رضا العاقلة؛ لأنهم لا يؤاخذون بإقرار الجاني، فكيف يؤاخذون برضاه) (مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج ج ٤ ص ٣٧٩) .
(٣) نفس المصادر

<<  <  ج: ص:  >  >>