للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تلك هي الرضائية، وهذا أثرها في بناء حدود التحكيم ورسم نطاقه، وهي كما هو واضح، سلطة مطلقة اليد فيما سبقت الإشارة إليه، تتحكم في رسم النطاق كما يبدو لها، ما دامت لا تصطدم بقواعد الشريعة الغراء وأحكامها الملزمة، أما إذا اصطدمت بها فالغلبة للشريعة، تلوي عنقها، لتظل إرادة الطرفين على بر الأمان فلا تقترب من حدود الله، ولا تتعداها {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: ٣٦] .

ولعل من أبرز النقاط التي تتدخل فيها الشريعة لتحدد مسار إرادة الطرفين في التحكيم، ما يتصل بموضوع التحكيم، أو أهلية المحتكم إليه (١) ، أو القانون الواجب التطبيق.

٢١- فموضوع التحكيم لا يسمح المشرع لإرادة الطرفين أن تصول وتجول فيه على النحو الذي يتراءى لها، فهناك من الموضوعات ما لا يحق للتحكيم أن يلج ميدانها؛ لأنه يجب أن يتولاها القاضي الذي يعينه ولي الأمر، وذلك إما استجابة لطبيعة هذه الموضوعات التي لا ترقى إرادة الطرفين إلى المساس بها، أو لتعلق حق غيرهما بها مما يحول بينهما وبين الانفراد بالنيل منها، أو لأن ولي الأمر رأى أن من الصالح العام أن لا يحكم فيها غير من يرى فيه – هو – الأهلية الخاصة لذلك.

فبإرادة الطرفين – وفق مشيئة المشرع – لا تقوى في الحالات السابقة جميعها على تعيين حكم يفصل في هذه المنازعات؛ لأنها لا تملك ترك الحق فيها، ولا يصح تراضي الأفراد بشأنها، والتحكيم – كما يقول الفقيه المالكي ابن عرفة – هو ما يصح لأحدهما ترك حقه فيه (٢) .


(١) آثرنا أن يكون الكلام عن تدخل الشريعة الإسلامية في اختيار المحتكم إليه، مع الكلام عن المحتكم إليه الذي أفردنا له فصلًا خاصًّا.
(٢) التاج والإكليل لمختصر خليل – للمواق – ج ٦ ص ١١٢

<<  <  ج: ص:  >  >>