للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتطبيقًا لذلك، فإن حقوق الله تعالى لا يصح فيها التحكيم سواء أكانت حقوقًا خالصة كالحد في السرقة أو الزنى أو الشرب، أما كانت تجمع بين الحقين، وحق الله غالب كحد القذف؛ وذلك لأن هذه الحقوق ليس لها مطالب معين من الأفراد، ولا مدخل للصلح فيها بينهم، وهي لا تسقط بإسقاطهم ولا تقبل المعاوضة عليها بالمال (١) ومن ثم فإن المتعين لاستيفائها هو الإمام أو نائبه ممن له ولاية عامة، وإذا كان الأفراد محرومين من هذه الولاية، فإنهم لا يملكون تفويض المحتكم إليه فيها؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

ومثل حقوق الله في ذلك، حقوق المحتكمين إذا تعلق بها حق لغيرهم، كاللعان فإنه يتعلق به حق الولد في نفي النسب، وهو غير المحتكمين، ولا ولاية للحكم عليه.

وكذلك الحكم إذا حضر ولي الأمر التحكيم في شأن من الشؤون، فإنه لا يصح التحكيم فيه؛ لأن حظر ولي الأمر داخل في سلطته، إذ هو نوع من تنظيم التحكيم،الذي يملكه ما دام لم يحظر نظر المنازعة حظرًا مطلقًا، وإنما حظرها على التحكيم لينظرها القضاء بما يتمتع به من ضمانات أوفى (٢) .

هذا ما تمليه القواعد الكلية في تحديد ما يصح أن يكون موضوعًا للتحكيم الرضائي، وهو لا يكاد يختلف كثيرًا عما خلص إليه رأي جمهور العلماء في الفقه الإسلامي: فهؤلاء يمنعون التحكيم في الحدود والقصاص واللعان.

يقول السرخسي من الحنفية: (وليس ينبغي للمحكم أن يقضي في إقامة حد أو تلاعن بين زوجين؛ لأن اصطلاح الخصمين على ذلك غير معتبر، وما يحكم به بمنزلة اصطلاح الخصمين عليه. (٣) .

ويقول ابن نجيم (وهو من الحنفية أيضًا) عن القصاص: (وما في الكتاب من منعه هو قول الخصاف وهو الصحيح كما في فتح القدير) (٤) .

ويقول الإمام الدردير من المالكية: (وجاز للخصمين تحكيم رجل عدل ... لا في حد من الحدود كقصاص أو جلد أو رجم ... ولا في لعان ...) (٥) .


(١) الدكتور سلام مدكور، نظرية الإباحة، نظرية الإباحة عند الأصوليين ص ٣٣٧
(٢) الدكتور سلام مدكور، نظرية الإباحة عند الأصوليين ص ٣٣٧
(٣) المبسوط للسرخسي ج ١٦ ص ١١١
(٤) البحر الرائق شرح كنز الدقائق ج ٧ ص ٢٦
(٥) الشرح الصغير للدردير ج ٤ ص ١٩٨ / ١٩٩

<<  <  ج: ص:  >  >>