للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويقول ابن قدامة – من الحنابلة – في المغني: (قال القاضي (أبو يعلى) ينفذ حكم من حكماه في جميع الأحكام إلا في أربعة أشياء: النكاح واللعان وحد القذف والقصاص؛ لأن لهذه الأحكام مزية على غيرها فاختص الإمام بالنظر فيها، ونائبه يقوم مقامه) (١) .

وقد لخص الماوردي رأي الشافعية في موضوع التحكيم فقسم آراءهم إلى ثلاثة أقسام قسم يجوز فيه التحكيم وهو حقوق الأموال وعقود المعاوضات وما يصح فيه العفو والإبراء، وقسم لا يجوز فيه التحكيم، وهو ما اختص القضاء بالإجبار عليه من حقوق الله تعالى، والولايات على الأيتام، وإيقاع الحجر على مستحقيه. وقسم مختلف فيه وهي أربعة أحكام هي: النكاح، واللعان، والقذف، والقصاص، وذكر أن في هذه الأحكام الأربعة وجهين، أحدهما: جواز التحكيم لوقوفها على رضا المختصمين، والثاني: عدم جوازه فيها؛ لأنها حقوق وحدود يختص بها الولاة. (٢) .

هذا مجمل ما انتهى إليه جمهور العلماء، وقد زاد عليهم المالكية أمورًا لا يجوز عندهم أن تكون موضوعًا للتحكيم، وهي القتل، إذا كان عقوبة للارتداد ولقطع الطريق (وذلك بجانب القتل قصاصًا) والولاء، والنسب والحبس (الوقف) المعقب، والطلاق والعتق، كما زاد بعضهم أيضًا فسخ الزواج، وإثبات الرشد وضده (السفه) وأمر الغائب، أما الحنابلة فقد صرح منهم صاحب كشاف القناع بأن حكم التحكيم ينفذ في كل الأمور من مال أو قصاص أو حد أو زواج أو لعان أو غيرها، ونقل بعضهم عن الإمام أحمد أنه يرى جواز التحكيم في كل ما يجوز للقاضي المولى أن يحكم فيه (٣) ، ورجح هذا الرأي بعض علماء الشافعية، ومنهم الشربيني الخطيب إذ قال في مغنى المحتاج: (والصحيح عدم الاختصاص؛ لأن من صح حكمه في مال صح في غيره، كالمولى من جهة الإمام) (٤) .

وقد نخلص مما تقدم أن ما رآه الجمهور من منع التحكيم في الحدود جميعها وفي القصاص واللعان قد قام على أسس قوية، وأن ما قاله المالكية من معيار المنع جدير بالتبني لمنطقه العقلي، ولعدم معارضة الكثير من الفقهاء الآخرين له صراحة، وهو يحمل في منع التحكيم في كل ما هو حق لله تعالى، وما استلزم الحكم فيه إثبات حكم أو نفيه من غير المتحاكمين ممن لا ولاية للحكم عليهم، أو ما اقتضى عظم قدره وخطره أن يعهد به إلى القضاء المولى دون غيره (٥) .


(١) المغني لابن قدامة ج ١٠ ص ٩٥
(٢) أدب القاضي للماوردي ج ٢ ص ٣٨١
(٣) كشاف القناع للبهوتي ج ٣ ص ٣٠٣ ح الكافي في الفقه ج ٣ ص ٤٤٦
(٤) مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج ج ٤ ص ٣٧٩
(٥) الشرح الصغير للدردير ج ٤ ص ١٤٨ وما بعدها؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج ٤ ص ١٣٦؛ المنتقى شرح موطأ مالك للباجي ج ٥ ص ٢٢٩؛ مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب ج ٦ ص ١١٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>