للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٢٣ – أما فيما يتعلق بتدخل الشريعة في تحديد القانون الواجب التطبيق على التحكيم فمرجعه إلى أن الرضاء لا أثر له في ذلك – بحسب الأصل – فالقانون هنا هو شرع الله، رضي المتحاكمان أم لم يرضيا، طلبا ذلك أم لم يطلباه، وفي هذا يقول الإمام ابن تيمية: (فإذا تحاكم إليه اثنان في دعوى يدعيها أحدهما، فصل بينهما كما أمر الله ورسوله، وألزم المحكوم عليه بما حكم به، وليس له أن يقول: أنت حكمت علي بالقول الذي لا أختاره) (١) .

وليس في ذلك مجال للخلاف بين العلماء، فقد وردت بحكمه آيات كثيرة من كتاب الله الكريم منها قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (٦٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (٦١) } [النساء: ٦٠ – ٦١] ، وقوله سبحانه: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:٢٦] .

غير أنه، ومع ذلك، وفي نطاق أحكام الشريعة الإسلامية – أيضًا – فإنه يجوز للمحتكمين أن يشترطا على الحكم أن يحكم بينهما على مقتضى مذهب معين، وذلك بشرط أن لا يكون المحتكم إليه – في ذاته – مجتهدًا اجتهادًا مطلقًا إذ لو كان كذلك، فإنه لا يجوز إلزامه بأن يحكم على خلاف ما يراه، أما إذا كان مجتهدًا في نطاق مذهب المالكية واشتراطا عليه ألا يخرج عن مذهب المالكية فإنه يجب عليه أن يتقيد بهذا الشرط فإن خرج لم يلزم حكمه، هذا وقد غلب على الزمن المتأخر الإلزام بمذهب معين – حتى للقاضي المولى – وذلك علاجًا لكثرة الخلاف وفساد الزمان، فضلًا عما فيه من توحيد الأحكام (٢) .

ولا يقتصر وجوب الاحتكام لشرع الله على الالتزام بالقواعد الموضوعية، بل إنه يتناول – كذلك – قواعد الإثبات التي يفرضها الفقه الإسلامي من بينة، وإقرار، ونكول عند حلف اليمين، فالخروج على هذا أو ذاك، يضم حكم المحكم بالبطلان، كما يضم حكم القاضي المولى بذلك إن هو خرج عليه (٣) .


(١) الفتاوى لابن تيمية ج ٣٥ ص ٣٦٠
(٢) البحر الرائق ج ٧ ص ٢٧، التبصرة لابن فرحون ج ١ ص ٢٢ وما بعدها، وفي تفصيل ذلك الدكتور محمد نعيم ياسين، حجية الحكم القضائي بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية ص ٦٦ وما بعدها، والمراجع المشار إليها فيه.
(٣) الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، الجزء العاشر ص ٢٤٣ والمراجع المشار إليها فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>