للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويرى المالكية – كذلك – أنه لو حكم أحد الخصمين خصمه فحكم لنفسه أو عليها مضى حكمه، ما لم يكن جورًا، وذلك على خلاف الحكم بالنسبة للقاضي المولى الذي يقوم التحاكم إليه على نوع من الإجبار، فلا تزول التهمة، وبالتالي لا يصح حكمه لنفسه (١) .

ففي الحالات السابقة وأمثالها يسوغ احترام إرادة المتحاكمين؛ لأنها لا تصطدم بالنص ولا بالعقل، في رأي من سمح بهذا من الفقهاء، أما حين تصطدم بالنص كافتقاد المحتكم إليه شرط الإسلام في حكومة من المسلمين فإنه لا يصح تحكيمه لمخالفة هذا لقوله تعالى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: ١٤١] وكذلك حين تصطدم بالعقل، كما إذا حكما مجنونًا أو صبيًا غير مميز؛ لأن كلا منهما لا ولاية له على نفسه، حتى تكون له ولاية على غيره، فتحكيمهما نوع من العبث لعدم استطاعتهما فهم خطاب الشارع الذي يتعين عليهما تطبيقه على المنازعة المعروضة.

٣٣ – ذلك هو جانب من أثر الرضائية على شروط المتحكم إليه، أما أثره على سلطته، فإنه وإن كان من المسلم به أن رضاء الطرفين بالتحكيم وبالمحتكم إليه هو مصدر سلطة هذا الأخير، بصفة رئيسية، إلا أنه كما سبق القول، ليس هو مصدرها وحده، فالشرع هو الذي سمح لهذه الإرادة بأعمال أثرها، بما جاء فيه من أدلة على مشروعية التحكيم، وهو في الوقت نفسه الذي حدد أثر هذه الإرادة، فلم يسمح لها أن تستطيل إلى تحديد حكم الله، أو تتعدى في تطبيقه على الواقعة المعروضة، وفي ذلك ينبه القرآن الكريم من يحكم في منازعات الناس بقوله سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠) } [المائدة ٤٩ – ٥٠] .


(١) التبصرة لابن فرحون ج ١ ص ٤٤؛ الدسوقي على الشرح الكبير ج ٤ ص ١٣٥

<<  <  ج: ص:  >  >>