للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالمحتكم إليه يبحث عن حكم الله دون النظر إلى صالح الطرفين ولا إرادتهما،؛ لأن عمله في هذا الشأن هو عمل القاضي، فكما أن القاضي لا يتقيد في حكمه برأي من ولاه فكذلك المحتكم إليه لا يسعى إلى إرضاء الطرفين بتتبع إرادتهما والحكم على مقتضاها، والقول بغير هذا، ينأى بالتحكيم عن غرضه، وهو الحكم بما أنزل الله، ويجعله وسيلة لاتباع الهوى غير جدير بالاعتبار ويجرده مما اقتضى أن تتدخل الدولة، فتلزم المحكوم عليه بالتنفيذ جبرًا، كما تلزم المحكوم عليه بقضاء القاضي وفي الحدود التي يحق فيها ذلك.

ولا يطعن على ذلك بأن إرادة الطرفين هي أساس التحكيم وأساس ولاية المحتكم إليه، فقد فسر ذلك الحنفية بما قالوه من أن تحكيم الحكم في الخصومة يشبه الوكالة من وجه، ويشبه حكم القاضي من وجه آخر، في المرحلة السابقة على إصدار الحكم، يكون المحتكم إليه في موقف الوكيل، فهو لا ينظر إلا النزاع الذي قبل المحتكمان نظره، وفي النطاق الذي حدداه، ولهما حق عزله، كما أن الوكيل لا يباشر من العمل إلا ما وكله فيه الموكل، وفي حدود ما وكله، وطالما لم يعزله قبل مباشرة العمل الموكول إليه.

فإذا تجاوز المحتكم إليه هذه المرحلة إلى مرحلة إصدار الحكم، اختلف وضعه، فلم يصبح في موقف الوكيل، وإلا ما جاز له أن يحكم بحكم ملزم للطرفين؛ لأن التوكيل لا يجوز إلا فيما يملكه الموكل، والخصم لا يملك إلزام خصمه بما يراه فيما يتنازعان فيه، فكذلك لا يملك تفويض غيره في ذلك وإنما موقف المتحكم إليه في هذه المرحلة هو موقف القاضي الذي ينزل حكم الله على الواقعة، ولا يكاد يختلف عنه إلا في الحدود التي يحق للطرفين تفويض المحتكم إليه فيها بشأن من الشؤون التي يملكان التنازل عنه، كتفويضه في الصلح فيما يجوز فيه، إذ مقتضى ذلك أنه يجوز للمحتكم إليه أن يلزم كلًّا من الخصمين بالتنازل عن بعض حقه، تنسيقًا لحقوقهما والتزاماتهما المتقابلة التي فوضاه في الصلح بشأنها (١)


(١) في الفرق بين التحكيم بالصلح والتحكيم بالقانون: الدكتور أحمد أبو الوفا، التحكيم بالقضاء وبالصلح، منشأة المعارف سنة: ١٩٦٥ ص ١٦٢ وما بعدها

<<  <  ج: ص:  >  >>