للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلى ذلك استقر جمهور الفقهاء (١) ، فقالوا بلزوم حكم التحكيم دون حاجة إلى رضاء جديد ممن حكم عليه، وذلك استنادًا إلى أن الحكم صدر عن ولاية شرعية، ولم يخرج عن نطاقها، ومن ثم فقد تعين الالتزام به؛ لأن من جاز حكمه لزم حكمه كالقاضي المولى (٢) ؛ ولأن المحتكم إليه كالوكيل، إذا تضرر في حدود وكالته، فإن تصرفه يلزم الموكل دون حاجة إلى رضاء جديد منه، هذا إلى جانب أن القول بغير هذا، يفرغ التحكيم من مضمونه، ويؤدي إلى فوات الحكمة من مشروعيته، فلن يكون وسيلة لسرعة الحسم، وإنما طريقًا إلى المماطلة بالحق، وإطالة أمد الخصومات دون مبرر، إذ سيكون على الطرفين – بعد أن حسم التحكيم نزاعهما – أن يترافعا إلى القاضي المولى – ويطرحا عليه منازعتهما ويتجادلا أمامه فيها، وكأن شيئًا لم يكن، وهذا بالإضافة إلى أن عدم الالتزام بحكم التحكيم لم يكن طريق السلف، فقد روى الشعبي أن امرأة نشزت على زوجها، فاختصما إلى شريح، فقال: ابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، فنظر الحكمان في أمرهما، فرأيا أن يفرقا بينهما، فكره الرجل ذلك، فقال شريح: ففيم كان اليوم وأقر رأي الحكمين بالتفريق دون أن يجعل لعدم رضا الزوج أثرًا على لزوم حكم المحكمين (٣)

٣٥- فحكم التحكيم – إذن – ملزم وفقًا لرأي الجمهور – المدعم بأسانيدهم العقلية القوية، فإذا قبل المحكوم عليه تنفيذه باختياره فقد أوفى بعهده ونفذ عقده، امتثالًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: ١] ، وإن لم يقبل تنفيذ ما قضى به عليه، فلا وسيلة لإجباره غير الالتجاء إلى القضاء؛ ذلك لأن المحتكم إليه لا يملك الأمر بالتنفيذ لخروجه عن نطاق التحكيم، ولأن الإجبار على التنفيذ لابد وأن يستند إلى ولاية عامة، وذلك ما يفتقده المحتكم إليه.

واختصاص القاضي المولى بمنازعة حكم التحكيم نابع من اختصاص بجميع المنازعات دون استثناء، ما دام ولي الأمر لم يخصصه بزمان أو مكان أو بحادثة محددة، فإن خصصه وأدى هذا التخصيص إلى خروج منازعة التنفيذ هذه من اختصاصه، كان علي ولي الأمر أن يولي قاضيًا آخر لهذه المنازعة، إذ لا يعرف الفقه الإسلامي منازعة لا قاضي لها.


(١) يرى بعض الشافعية أنه لابد من رضاء المحكوم عليه بعد الحكم؛ لأن حكمه إنما يلزم بالرضا، فلا يكون الرضا إلا بعد المعرفة بحكمه، ولكن هذا الرأي ليس هو الأظهر في مذهبهم، يقول النووي صاحب متن المنهاج: (ولا يشترط الرضا بعد الحكم على الأظهر) مغني المحتاج على متن المنهاج الجزء الرابع ص ٣٧٩
(٢) الكافي في فقه الإمام أحمد ج ٣ ص ٤٤٦
(٣) جامع البيان في أحكام القرآن للطبري ج ٥ ص ٧٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>