للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٣٦ – والأصل أن سلطة القاضي على حكم التحكيم من الناحية الموضوعية لا تختلف عن سلطته على قضاء القاضي المولى إذا رفع إليه، وذلك على رأي الجمهور، فالحكم إذا خالف نصًّا من الكتاب أو السنة، أو إجماعًا، أو قاعدة واجبة الإعمال فإنه ينقض، سواء أكان حكمًا صادرًا من قاض مولى أو من محتكم إليه، إذ لا حجية في مخالفة الشرع، ولا اجتهاد فيما لا يجوز الاجتهاد فيه (١)

أما إذا كان الحكم صادرًا فيما يجوز فيه الاجتهاد، ففي رأي الجمهور لا يجوز نقضه، سواء أكان حكمًا لقاض أم لمحتكم إليه، وسواء أوافق اجتهاد القاضي الذي ينظره أم خالفه (٢) ؛ ذلك لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله وإلا لتوالى نقض الأحكام وعز الاستقرار وغلبت الفوضى، على نحو ما يشرحه الإمام الغزالي في كتابه (المستصفى) (٣)

ويرى الحنفية أن حكم المحتكم إليه يختلف في حجيته عن حكم القاضي إذا صدر في المواضع التي يجوز فيه الاجتهاد؛ ذلك لأن حكم التحكيم إذا صدر في ذلك ورفع أمره إلى القاضي، فإن وافق اجتهاده أمضاه، لا لأنه واجب الإمضاء لذاته وإنما لأنه لا فائدة من نقضه، ثم إبرامه على نفس الوجه، أما إذا كان يخالف رأي القاضي فإن له أن يفسخه فلا ينفذ، وقالوا في تعليل ذلك، إن حكم التحكيم بمثابة العقد الموقوف على إجازة القاضي، فيملك القاضي فسخه، كما أن التحكيم لا ينفذ إلا في مواجهة من رضي به، ولذلك صح تنفيذه بين الخصوم، أما القاضي فلأنه لم يرض به، فإنه لا يلزمه ورضاهما بحكمه لا يكون حجة الإلزام في حق القاضي (٤) ، وهذا كله لا يتحقق في قضاء القاضي المولى، فإن الرضا به ليس شرطًا لتنفيذه، لاستناده إلى ولاية عامة تشمل القاضي الذي عرض عليه الحكم، فلا ينقض إلا إذا خالف النص أو الإجماع أو كان قولًا لم يقل، من يعتد به من المجتهدين.


(١) الدكتور محمد نعيم ياسين، حجية الحكم القضائي بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، الطبعة الأولى ص ٥٧ وما بعدها والمراجع المشار إليها فيه، والدكتور عبد الحكم أحمد شرف، بحث في حجية الأحكام في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية الطبعة الأولى ص ٨٧ ما بعدها والمراجع المشار إليها فيه.
(٢) المنتقى شرح موطأ مالك، الجزء الخامس ص ٢٢٦ (دار الفكر العربي)
(٣) يقول الإمام الغزالي في المستصفى: (المجتهد إذا أداه اجتهاد إلى أن الخلع فسخ، فنكح امرأة خالعها ثلاثًا، ثم تغير اجتهادًا، لزمه تسريحها، ولم يجز له إمساكها على خلاف اجتهاده، ولو حكم بصحة النكاح حاكم بعد أن خالع الزوج ثلاثًا، ثم تغير اجتهاده لم يفرق بين الزوجين ولم ينقض اجتهاده السابق بصحة النكاح لمصلحة الحكم فإنه لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد، لنقض النقض أيضًا ولتسلسل، فاضطربت الأحكام ولم يوثق بها) (المستصفى، الجزء الثاني، ص ٣٨٢ الطبعة الأولى) ويعلل الإمام القرافي لعدم النقض بتعليل آخر فيقول ما مضمنونه: إن الله سبحانه وتعالى جعل للحكام أن يحكموا في مسائل الاجتهاد بأحد القولين، فإذا حكموا بأحدهما كان ذلك من الله حكما في تلك الواقعة. وإخبار الحاكم بأنه حكم فيها كنص من الله خاص بتلك الواقعة، معارض للدليل المخالف لما حكم به الحاكم في تلك الواقعة، أي أن القرافي يرى أنه عند الاجتهاد يوجد عام وخاص، فأما الخاص فهو الحكم الذي صدر عن القاضي أولا، وأما العام فهو الدليل الذي يستند إليه القاضي الذي رفع إليه الحكم، وأداه اجتهاده المبني على هذا الدليل إلى رأي مخالف للحكم القضائي المرفوع إليه، وإذا كان الخاص يقدم على العام عن التعارض فإنه يجب تقديم المال الذي صدر أولا (في تفصيل رأي الإمام القرافي، كتاب الفروق ج٢ ص١٠٥، وكتاب الأحكام ص١٥)
(٤) المبسوط للسرخسي ج ١٦ ص ١١١

<<  <  ج: ص:  >  >>