للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا ريب أن ما يسند إليه الحنفية لا يحمل رأيهم المناقض لرأي الجمهور؛ ذلك لأن اعتبار الحكم بمثابة العقد الموقوف على إجازة القاضي، يوجب رفعه إليه دائمًا، ولا يستساغ القول بأنه نافذ في علاقة الطرفين دون حاجة إلى عرضه على القاضي لإجازته، أما اشتراط رضاء القاضي بالتحكيم حتى يجب عليه أن ينفذ الحكم، فغير مقبول؛ لأن الرضا مطلوب من أطراف الخصومة، والقاضي ليس طرفًا فيها.

على أنه إذا كان الأصل – لدى الجمهور – أن سلطة القاضي المولى على حكم المحكمين لا تختلف عن سلطته على حكم قاض آخر، فإن الأمر في التحكيم قد يتطلب بعض التأمل؛ ذلك لأنه – خروج على الأصل العام – فإن للطرفين أن يختارا للتحكيم في منازعتهما من يفتقد بعض الشروط التي يراها جمهور الفقهاء ضرورية للقاضي المولى، كالمحكم الفاسق أو الجاهل الذي يستشير، أو غير سليم الحواس، وعلى التفصيل السابق بيانه في الكلام عن المحتكم إليه، هذا السماح – إن أخذ به كليًّا أو جزئيًّا – يقتضي – في نظرنا – أن يخول القاضي حق تصفح أحكام المحكمين للتحقق من أنه لا يشوبها خطأ مؤثر، ولو لم يبلغ درجة الجور البين، وذلك بجانب ما هو مطالب به من التحقق من أنها لا تخالف نصًّا قطعيًّا في الكتاب أو السنة، كما لا تخالف إجماعًا ولا قياسًا جليًّا، وليس في هذا افتئات على إرادة الطرفين، فهي على احترامها وتقديرها، ما دام الأمر لا يتعدى أمر التنفيذ الاختياري، أما إذا أريد استعمال سلطة الدولة في التنفيذ جبرًا، فإن من حق الدولة أن تتحقق من أنها لا تجبر أحد على تنفيذ أمر مشوب بخطأ بين إذ الإعانة على الظلم، ظلم.

غير أن ذلك لا يجوز أن يخرج قضاء التنفيذ عن ظاهر الأمور، فالأصل حمل القضاء على المصلحة ما لم يثبت الجور (١) . ومقتضى هذا أنه يفترض – بحسب الأصل – أن المحتكم إليه قد استوفى الشروط المطلوبة، فإذا ادعى أحد طرفي التحكيم أن المحتكم إليه يشوبه فسق لم يكن يعلمه، أو أنه موصوم بجهل لم يتداركه بمشاورة أهل العلم، وفق ما كان متفقًا عليه واكتفى بالحدس والتخمين، فإن على من يدعي ذلك أن يقدم الدليل عليه، وإلا حق الالتفات عن مطاعنه إذا لم تظاهرها ظروف الدعوى وملابساتها.


(١) تبصرة الحكام لابن فرحون ج ١ ص ٧٤؛ والدكتور محمد نعيم ياسين، المرجع السابق ص ١١

<<  <  ج: ص:  >  >>