للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويستشهد الحنفية على صحة رأيهم – فيما يشهدون به – بأن معاملات غير المسلمين لا يحضرها المسلمون عادة، فإذا لم يكن لبعضهم شهادة على بعض، تعرضت حقوقهم للضياع عند الجحود والإنكار؛ ولأن القرآن الكريم أثبت ولاية الكفار بعضهم لبعض، كما جاء في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: ٧٣] ؛ ولأن غير المسلمين من ذميين ومستأمنين لهم ما لنا وعليهما علينا، وبالتالي فكما أن للمسلمين الشهادة بعضهم على بعض فكذلك يجب أن يكون لغيرهم من رعايا الدول الإسلامية (١)

٤٠- ومع أن جمهور الفقهاء قد ردوا على النصوص التي استشهد بها الحنفية ردودًا مقنعة، فإن منطق الأدلة العقلية التي استشهدوا بها وارتباطها بالمصلحة التي يقرها الشرع، وما جرى عليه العمل في عهد الخلفاء الراشدين من عدم انتزاع سلطة الفصل في منازعات غير المسلمين من أيديهم، كل ذلك جعل بعض علماء العصر الحاضر يؤيدون وجهة نظر الأحناف بجواز تولية غير المسلمين القضاء في المنازعات التي تنشب بين أمثالهم، مع إطلاق ذلك الحكم حتى يشمل قضاء الكفار بعضهم على بعض، دون تفرقة بين ذميين ومستأمنين، فالكفر كله ملة واحدة، وبغير اشتراط أن يكون المستأمنون متحدي الدار (٢) .

على أن الأمر الجدير بأن يعطى حقه في الترجيح بين رأي الحنفية ورأي الجمهور، هو تحديد الشريعة التي سيحكم بها القاضي غير المسلم فيما يفصل فيه من منازعات غير المسلمين؛ ذلك لأن الجمهور لا يترددون في القول بوجوب الحكم بالشريعة الإسلامية في هذه المنازعات، ولا يكاد يختلف معهم الحنفية إلا في بعض تفصيلات قليلة استثنوها من الحكم بالشريعة الإسلامية تصل بالأنكحة والمهر والخمر والخنزير، وفيها يطبقون شريعتهم، وإن كان ذلك في حقيقته تطبيق لما أمرت به شريعة الإسلام.


(١) جاء في بعض الكتب الحنفية أنه يجوز أن يقلد الذمي القضاء في المنازعات بين المسلمين وغيرهم، على أن لا ينفذ حكمه إلا إذا قضى ضد غير المسلم، وقد كان هذا الرأي محل اعتراض كثير من الفقهاء، لمخالفته للأدلة العديدة التي تمنع ولاية غير المسلم على المسلم؛ ولأن الأمر يوقع في اضطراب، إذ كيف يكون الحكم نافذا وغير نافذ في وقت واحد، (المستشار جمال المرصفاوي، نظام القضاء في الإسلام، القسم الأول من البحوث المقدمة لمؤتمر الققه الإسلامي الذي عقد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض في سنة ١٣٩٦هـ، طبعة إدارة الثقافة والنشر بالجامعة، رد المحتار على الدر المختار، الطبعة الثانية ج٥ ص ٣٥٥؛ تبيين الحقائق للزيلعي ج ٤ ص ١٩٣؛ الفتاوى الهندية ج ٣ ص٣٩٧، ٣٩٨، والدكتور بدران أبو العينين بدران، العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين، طبعة ١٩٨٤ ص ٢١١ إلى ص ٢٢٩) .
(٢) من ذلك المرحوم الدكتور محمد سلام مدكور في كتابه (المدخل للفقه الإسلامي والنهضة العربية) الطبعة الثامنة ص ٣٥٧، وكتابه (القضاء في الإسلام) المطبعة العالمية ص ١٢٥

<<  <  ج: ص:  >  >>