للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثالثها: أنها طبقًا لرأي المالكية ومن سار في اتجاههم، فإن القاضي المولى له أن يعرض عن غير المسلمين إذا لجئوا إليه للفصل في خصوماتهم، وذلك أخذًا بقوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} [المائدة: ٤٢] ، وأنه طبقًا لرأي الشافعية، فإن له أن يعرض عنهم إذا كانوا من المعاهدين، أما الذميون فإنه يجب عليه الحكم في خصوماتهم عملًا بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: ٤٩] ، وأنه طبقًا لرأي أبي حنيفة، فإن القاضي المسلم لا يجب عليه القضاء في أنكحة غير المسلمين إلا إذا ترافع إليه الخصمان كلاهما، ففي هذه الحالات وأمثالها، كيف يتسنى الفصل في خصومات غير المسلمين التي أعرض عنها القاضي المولى؟ ألا يكون في إلقاء عبئها على المتنازعين أنفسهم ليختاروا هم من يرضى بالحكم بينهم ممن يثقون به، ولو كان غير مسلم، ألا يكون في ذلك جمع بين عدم إجبار القاضي المولى على حكومة لا يرضاها، وبين الفصل في المنازعة، مع الاطمئنان إلى أنها سوف تمر في صمام الشريعة الإسلامية في الوقت المناسب؟ وبذلك يكون قد وضح سرًّا آخر لاحتفاظ الشريعة الإسلامية – بجانب قضاء الدولة الرسمي – بنظام التحكيم القائم على التراضي بين الخصوم، وعلى قبول المحتكم إليه – بمحض اختياره – الفصل في المنازعة التي رشحه الأفراد لها (١) .

إن منح غير المسلمين في دار الإسلام الحق في الالتجاء إلى التحكيم بينهم – في الأمور التي أمرها فيها بتركهم وما يدينون - تطبيق لمبادئ الإسلام نصًّا وروحًا، كما هو تطبيق لقاعدة عدم وجود خصومة بلا قاض في الدولة الإسلامية.


(١) يقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري في الصحيفة ١٧ من بحث قدمه، وصية غير المسلم طبع في سنة ١٩٤٢: (إن القضاء بمعناه الصحيح لا يليه في الشرع إلا مسلم، فلا يجوز تقليد الذمي القضاء حتى على ذمي مثله، وإذا حكم الذمي في أقضية الذميين، فإنما يكون هذا تحكيمًا) (نقلًا عن الدكتور عبد الكريم زيدان، المرجع السابق ص ٤٨٢

<<  <  ج: ص:  >  >>