للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما سبق في الفقه الإسلامي من أدلة على مشروعية التحكيم كثير، إلا أن بعضه يتطرق الاحتمال إلى دلالته، وبعضه الآخر قد يتصرف إلى نوع من التحكيم غير التحكيم الرضائي الذي نعنيه بالدراسة، ومع ذلك فهناك من الأحاديث الشريفة، القولية والفعلية ما يكفي للبرهنة على هذه المشروعية، ومن ذلك حديث أبي شريح الذي استحسن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم نظام التحكيم الرضائي، وحديث تحكيم سعد بن معاذ في يهود بني قريظة، وحديث تحكيم الأعور بن بشامة في بني العنبر حين انتهبوا مال الزكاة، ففي كلتا الواقعتين قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم النزول على التحكيم، ونفذ ما قضى به المتحكم إليه، هذا إلى جانب الوقائع العديدة التي نقلت إلينا بطرق موثوقة، وتقطع بتطبيق الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين، لنظام التحكيم الرضائي في عهد الخلفاء الراشدين، ومن ذلك واقعة التحكيم بين شيعة علي وشيعة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم، والتي حملت إلينا ما يشبه إجماع الصحابة في العصر الذي وقعت فيه على مشروعية التحكيم من حيث المبدأ على أقل القليل.

وقيام التحكيم على الرضائية يستلزم أن تكون إرادة الطرفين واضحة الدلالة عليه طبقًا للقواعد العامة في الفقه الإسلامي التي تحكم الإيجاب والقبول وتطابق الإرادتين، وليس- بعد ذلك- بذي أثر أن يكون الاتفاق سابقًا على قيام المنازعة أو لاحقًا عليه، فالفقه يسع هذا وذلك، ولا يتجافى مع التسميات التي يطلقها رجال القانون على كل منها، وإنما يجب أن يكون التحكيم في خصومة شرعية لا صورية، وأن يتوافر للمحتكمين أهلية التعاقد على التحكيم، وهي أهلية التصرف، وذلك كله حتى يجري التحكيم في النطاق الذي حدداه، فلا يتجاوزه، ولو إلى مسألة أولية لازمة للفصل، ويجري في مواجهة من رضي به، فلا يسري على غائب لم يرض به، ولو كان ما يدعى به عليه سببًا لما يدعى به على الحاضر، وهذا ما لم يشهد العرف بأن الغائب يعد راضيًا بالتحكيم وذلك في النطاق الضيق الذي طبقه الأحناف على الشريك الغائب عن احتكام شريكه مع غريمهما.

<<  <  ج: ص:  >  >>