للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا كان التحكيم عقدًا غير لازم بالنسبة لطرفيه فإنه – أيضًا – غير لازم بالنسبة للمحتكم إليه، فيجوز له أن لا يقبله، وإذا قبله يجوز له أن يعزل نفسه عنه، ولكن لا يجوز له أن يستخلف غيره إلا إذا أذن له بذلك؛ لأن الرضاء منصب على شخصه.

ذلكم هو التحكيم في الفقه الإسلامي، بإطلاقاته وقيوده، وعلينا أن نتأمل فيه، وأن نتدبر فيما وراءه، فقد علمنا الإسلام ذلك وعاب على من يمر بآياته مرور الكرام فقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: ١٠٥] .

فالتحكيم – في نظرنا – ليس مجرد وسيلة لحل المنازعات سلميًّا، وإنما هو منفذ هائل للاستجابة إلى حاجات غير المسلمين في دار السلام، وحاجات المسلمين خارجها، وحاجات الدولة ذاتها في علاقاتها مع الأمم والشعوب، وذلك كله بما لا يخرج على أحكام الشريعة الإسلامية، بل وبما يسهم – بجدية فريدة – في تطبيق شرع الله حين تقف العقبات المصطنعة في طريقه.

فأولًا: بالنسبة لغير المسلمين في داخل الدولة الإسلامية، فإن نظام التحكيم يسمح لهم بالاحتكام إلى غير المسلمين في الأمور التي أمرنا أن نتركهم وما يدينون، ويؤيد ذلك ما يراه الأحناف في هذا الشأن، وما استدلوا به من أدلة عقلية مقبولة، وما تمليه طبيعة التحكيم من خصائص أهمها: أن غير المسلمين إذ تحاكموا إلى حكام من أهل دينهم، فإنهم يلتزمون بما يحكمون به لالتزامهم له، وليس لأنه لازم من الأصل، ولأن القضاء المولى يمثل صمام الأمان الذي يحول دون الإجبار على تنفيذ حكم تحكيم لا يتفق مع الشرع؛ ولأن في السماح لمحكم غير مسلم بمن يتولى منازعات غير المسلمين، جمع بين مقتضى قاعدة عدم ترك خصومة بلا قاض في الإسلام، وبين حق القاضي في الإعراض عن خصومة غير المسلمين في الحالات التي يراها المالكية وغيرهم من فقهاء المذاهب.

<<  <  ج: ص:  >  >>