للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٣- احتكام المسلمين إلى المحكمة الدولية في نزاعهم مع بعضهم

جماع الحكم في هذه المسألة جاء في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) } [الحجرات: ٩ – ١٠] . فالإسلام لا يعترف بتقطع المسلمين شراذم أممًا، تدعي كل شرذمة منها استقلالًا سياسيًّا في دولة لها حدود مصطنعة، وتختار داخل هذه الدولة نظامًا خاصًّا بها يجعل من المسلمين الآخرين أجانب عنها، تطبق عليهم من القواعد مثل ما تفرضه على غير المسلمين أو أدنى.

ولهذا ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجوز أن تتعدد الدول الإسلامية، بل لا بد من دولة للمسلمين واحدة، لها إمام واحد؛ لأن في تعدد الدول الإسلامية مظنة للنزاع والفرقة، وهذا منهي عنه بقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: ٤٦] ، وقال أبو عبيد: المراد بالريح في الآية الكريمة هو الدولة (١) . ومقتضى ذلك: أن مسألة احتكام المسلمين في نزاعاتهم الداخلية إلى جهة أجنبية عنهم لا يتصور وقوعها.

ومع ذلك: فقد لاحظ بعض الفقهاء والمفكرين الإسلاميين الضرورة العملية لوجود أكثر من دولة إسلامية، لكل منها إمام مستقل. فقد قال البغدادي: (لا يجوز أن يكون في الوقت الواحد إمامان، واجبي الطاعة ... إلا أن يكون بين البلدين بحر مانع من وصول نصرة أهل كل واحد منهما إلى الآخرين، فيجوز حينئذ لأهل كل واحد منهما عقد الإمامة لواحد من أهل ناحيته) (٢) . وقال إمام الحرمين: (عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمخالف غير جائز، وقد حصل إجماع عليه. وأما إذا بعد المدى، وتخلل بين الإمامين شسوع النوى، فللاحتمال في ذلك مجال، وهو خارج عن القواطع) (٣) . وقال ابن حزم: (اتفق من ذكرنا على أنه: لا يجوز كون إمامين في وقت واحد في العالم ... إلا محمد بن كرام السجستاني وأبا الصباح السمرقندي وأصحابهما: فإنهم أجازوا كون إمامين وأكثر في وقت واحد) (٤) . ولما رأى أن أهل الأندلس أجازوا العقد لخلفاء متعددين، علق على ذلك قائلًا: (اجتمع عندنا بالأندلس في صقع واحد خلفاء أربعة، كل واحد منهم يخطب له بالخلافة بموضعه، وتلك فضيحة لم ير مثلها) وقال مثل ذلك عبد الواحد المراكشي: (وصار الأمر في غاية الأخلوقة والفضيحة: أربعة كلهم يتسمى بأمير المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخًا في مثلها) (٥) .


(١) الماوردي، الأحكام السلطانية: ٧، ٣٧
(٢) البغدادي، أصول الدين، بيروت: ١٩٨١، ص ٢٧٤
(٣) الجويني، كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، القاهرة: ١٩٥٠، ص ٤٢٥؛ وانظر جواهر الإكليل: ١ / ٢٥١؛ مغني المحتاج: ٤ / ١٣٢
(٤) ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، القاهرة: ١٣١٧ – ١٣٢١ هـ، ج ٤، ص ٨٨
(٥) أحمد مختار العبادي، في تاريخ المغرب والأندلس، مكتبة الأنجلو المصرية، ط ٢: ١٩٨٦،ص ٢٧٩

<<  <  ج: ص:  >  >>