للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفتاوى هؤلاء وجهودهم بيان صادق على المرتبة العلمية العليا التي بلغوها، وقد أنتجت هذه النهضة العلمية العملية ما يغذي مجال العمل الفقهي، إذ كان من ثمراتها الجهود الإصلاحية الكبرى التي ابتدأها المحقق الخليلي رحمه الله -، وقد استفاد من واقعه العملي في تآليفه، من ذلك كتاب (إثابة الملهوف بالسيف المذكر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، الذي تميز بأنه تمخض عن تجربة واقعية، فكان كتابه بحق دستورا في الفقه الجنائي، فهو من هذه الحيثية يعد عملا فقهيا واقعيا.

ومن أمثلة ذلك كتاب (جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام) للإمام السالمي، الذي صاغه بأسلوبه البارع نظما رائقًا حتى غدا أنشودة المتعلمين في عمان من بعده، وصار مرجعا للعالم والمبتدئ والعامي في استقاء الأحكام الشرعية.

المغرب الإباضي:

أما في المغرب الإباضي، فمن أقدم ما يخدم مجال العمل الفقهي كتاب (ديوان الأشياخ) أو (ديوان الغار) أو (ديوان العزابة) الذي ألف في رأس القرن الرابع الهجري.

ومن أهم ميزاته أنه صنف من قبل سبعة من العلماء (١) ، مما أعطاه صبغة علمية واضحة وطبيعة مختلفة عن كثير من المؤلفات التي ظهرت في المذهب الإباضي، ذلك (أنه وضع لجمع الأحكام الشرعية للمسائل الحياتية مختصرة واضحة يرجع إليها المفتي والقاضي) (٢) .

كما أن فكرة المختصرات التي كانت في الغالب يراد بها بيان المعمول به أو الإرشاد إليه، ظهرت في مؤلفات الشيخ أبي زكريا يحيى بن أبي الخير الجناوني (من علماء النصف الأول من القرن الخامس الهجري) ، مثل كتاب الصوم (وهو عادة يصدر بالقول المعمول به) (٣) ، وكتاب (النكاح) الذي كان ينبه فيما فيه خلاف إلى المعمول به، كقوله: "وقيل إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، وليس عليه العمل عندنا، والقول الأول هو قول أصحابنا رحمهم الله " (٤) . والقول الأول أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج.

وأما ما لم يذكر فيه خلافا فظاهره أن مراده العمل به.

وتستمر المؤلفات الإباضية في المغرب العربي، حتى يأتي دور أبي يعقوب يوسف بن خلفون (من علماء القرن السادس الهجري) ، لتكون أجوبته رافدا لقضية العمل الفقهي في بعض المسائل، حيث يقول في آخر أجوبته مبينا سبب إجباته لسائله: "دعاني إلى ذلك ألا أكتم عليك شيئا من الاختلاف والتوقيف على مذهب أصحابنا، وما صح به العمل عندهم " (٥) ، بعد أن قال في مقدمة كتاب: "وقد كتبت إلينا – وفقنا الله وإياك لسبيل مرضاته – في مسائل تريد شرحها، وبيان اختلاف الفقهاء فيها من السف والخلف، وما اعتمد عليه أصحابنا من ذلك " (٦) .

ثم يأتي دور أبي ساكن عامر بن علي الشماخي (ت ٧٩٢ هـ) ، الذي نوه ببعض الأمور التي عليها العمل عند الإباضية في كتابه (الإيضاح) ، الذي قال عنه بدر العلماء أحمد بن سعيد الشماخي (ت ٩٢٨ هـ) : "وهو اعتماد أهل المغرب في وقتنا خصوصا نفوسة، وبعده ديوان أبي زكريا يحيى بن الخير، وبعدهما الديوان ديوان الأشياخ " (٧) .

وجعله الشيخ أبو إسحاق إبراهيم أطفيش (مرجع الفتوى بلا منازع) (٨) ، و (معتمد الأصحاب في الفتوى بالمغرب) (٩) .

وفي أواخر القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر الهجريين يؤلف الشيخ عبد العزيز ابن إبراهيم الثميني (ت ١٢٢٣هـ) كتابه القيم (النيل وشفاء العليل) ، الذي هو اختصار لعدد جم من الكتب التي سبقته، واختصاره إلى حيث يشبه الرموز في كثير من الأحيان، فقد أراده (مختصرا في الفقه جامعا، مبينا لما به الفتوى من مشهور المذهب) كما قال ذلك بنفسه (١٠) .

وقد عد كتاب النيل – في المغرب الإباضي – بمنزلة مختصر الشيخ خليل في المذهب المالكي (١١) . والحال نفسها فيما يتعلق بظهور مجتهدين في المغرب العربي الإباضي، إذ ظهر قطب الأئمة الشيخ محمد بن يوسف أطفيش (ت ١٣٣٢ هـ) الذي يمثل أحد أركان النهضة العلمية الحديثة، فألف عددا جما من الكتب التي لا ريب أنها تعالج نوازل معيشة، فيكون دوره الريادي في قضية العمل على نحو ما مضى قوله من أثر أمثال هؤلاء المصلحين في هذه المسألة إما بالتأصيل أو بالتغيير.


(١) ألف هذا الديوان في جزيرة (جربة) في (غار مجماج) ، ولذا يسمى بديوان الغار وبديوان الأشياخ نسبة لأشياخ العلم السبعة الذين ألفوه وهم: (١) أبو عمران موسى بن زكريا المزاتي الدمري، (٢) أبو محمد عبد الله بن ماتوح اللمائي الهواري، (٣) أبو عمرو التميلي الزواغي، (٤) أبو يحيى زكريا بن جرناز النفوسي، (٥) جابر بن سدرمام، (٦) كباب بن مصلح المزاتي، (٧) أبو مجبر توزين المزاتي؛ انظر لمزيد تفصيل: نظام العزابة عند الإباضية الوهبية في جربة. هذا والبعض يعد ديوان العزابة غير ديوان الأشياخ، مثل الشيخ أبي إسحاق أطفيش، حيث جعل في مقدمته لكتاب (الوضع) ديون العزابة مؤلفا من قبل عشرة من العلماء، بينما ألف ديون الأشياخ سبعة.
(٢) أشعة من الفقه، ص ١٨٦.
(٣) النكاح، المقدمة، ص ٨؛ أشعة من الفقه، ص ١٩٢.
(٤) النكاح، ص ٨٨.
(٥) أجوبة ابن خلفون، ص ٩٦.
(٦) أجوبة ابن خلفون، ص ٢٣.
(٧) كتاب السير: ٢ / ١٩٩.
(٨) الوضع، مقدمة أبي إسحاق أطفيش، ص ٣.
(٩) الوضع، مقدمة أبي إسحاق أطفيش، ص ٩.
(١٠) النيل، ص ٤.
(١١) النيل، مقدمة عبد الرحمن بن عمر بكلي، ص ٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>