للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلى هذا أجاز الإمام أحمد البيع بما ينقطع به السعر من غير تقدير الثمن وقت إنشاء العقد، وهو شرط يوجب جهالة بالثمن. قال ابن القيم: واختاره شيخنا (يعني ابن تيميه رحمهم الله تعالى) وقال: وأجمعت الأمة على صحة النكاح بمهر المثل وأكثرهم يجوزون الإجارة بأجرة المثل كالنكاح والغسال والخباز والملاح وقيم الحمام والمكاري، وهذا شرط يوجب جهالة في الثمن ولكن أجازه للحاجة، ولمكان العسر والحرج في التعاقد على ما يتم شراؤه يوميا من البقال والجزار من قبل من يعاملونهم (١) .

ويتمسك الحنابلة أيضا في هذا المقام بما رواه الإمام البخاري في صحيحه في قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلا تزوج امرأة وشرط لها السكنى في دارها، ولما أراد نقلها إلى بيته رفضت وطلبت الوفاء بما اشترط على نفسه، فتقاضيا إلى عمر فقال: (لها شرطها) فقال الزوج: إذن يطلقننا. فأجابه عمر بتلك الكلمة الدستورية الخالدة: (مقاطع الحقوق عند الشروط ولك ما شرطت) (٢) .

ويروي ابن القيم – رحمه الله – عن البخاري في صحيحه عن ابن عون عن ابن سيرين أنه قال: قال رجل لكريه: أرحل ركابك فإن لم ارحل معك في يوم كذا فلك مائه درهم، فلم يخرج، فقال شريح: من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه (٣) .

ثم يقول الشيخ الزرقا – رحمه الله -: وهذا النوع من الاشتراط المروي عن القاضي شريح في ضمان التعويض عن التعطل والانتظار هو ما يسمى في الفقه الأجنبي الحديث (الشرط الجزائي) (٤) .

وعليه أجاز متأخرو الحنابلة كل شرط إلا ما كان منافيا لمقتضى العقد أو منافيا للشرع نفسه. ويمثل لهذا ابن رشد في قوله: (والعلة في النهي عن تعدد الصفقة

(الشروط) إما الربا أو الضرر أو الجهالة المفضية إلى النزاع الذي يتعذر معه تنفيذ العقد أو إلغاء مقتضاه، والمقصود الأصلي منه، أو منافاته للشرع نفسه بنص خاص به أو اتخاذه ذريعة لتحليل محرم، أو إسقاط واجب تنفيذ لباعث غير مشروع (محرم يبطل العقد) تحايلا على مقاصد التشريع وقواعده، لأن القصد غير الشرعي هادم للقصد الشرعي، ومناقض له، أو لمجرد المضرة والعبث حتى إذا خلا من كل أولئك، كان صحيحا رغم التعدد، إذ النهي عن التعدد لا لذاته، بل هو معقول المعنى، ومعلل بالمعاني التي أشرنا إليها تحقيقا للمصلحة والعدل، كما يقول الإمام مالك) (٥) .


(١) إعلام الموقعين: ٤/٥-٦، لابن القيم.
(٢) علقه البخاري في صحيحه في موضعين: في كتاب الشروط، باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح: ٥/٣٢٢، وفي كتاب النكاح، باب الشروط في النكاح: ٩/٢١٧، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: وصلة سعيد بن منصور، المدخل الفقهي: ١/٥٦٠.
(٣) رواه البخاري في كتاب الشروط باب ما يجوز من الاشتراط: ٥/٣٥٤، مع الفتح.
(٤) المدخل: ١/٥٦٦، والكري بتشديد الياء، وزان غني هو المكاري الذي يؤجر دوابه للسفر. وأرحل ركابك أي شد على دوابك رحالها استعدادا للسفر، وشريح (بصيغة التصغير) هو شريح بن الحارث بن قيس الكندي، من أشهر القضاة الألمعيين، والفقهاء المجتهدين في صدر الإسلام، ولاه عمر بن الخطاب قضاء الكوفة واستمر فيه حتى استعفى في أيام الحجاج فأعفاه وكان ثقة في الحديث، مأمونا في القضاء، وله باع في الأدب والشعر وعمر طويلا – الأعلام للزركلي -.
(٥) بداية المجتهد: ٢/١٩٣، لابن رشد، والفقه الإسلامي المقارن، ص٦٢٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>