للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولعل المذهب الأول هو المتفق مع القواعد الفقهية المتعلقة بهذه المسألة، كقولهم: يتحمل الضرر الأخف لدرء الضرر الأشد، وكقولهم: إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً، بارتكاب أخفهما. وهما من القواعد المتفق عليها لدى المذاهب الفقهية. وهما متفرعتان عن قاعدة (الضرر يزال) (١) .

أما الاستدلال بالكرامة الإنسانية، فمن المعلوم أن هذه الكرامة تصبح مهدرة بتحقق موجب القتل. وإلا لما أوجبت الشريعة الإسلامية قتله، وقد تبين من صريح قول الله عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: ٤، ٥، ٦] أن الكرامة التي ميز الله الإنسان بها، ليست نابعة من جوهر بشريته، حتى تكون ملازمة له في كل الحالات: وإنما هي وصف يلازمه ما كان متجاوباً مع فطرة عبوديته لله عز وجل، مستقيماً على الانصياع لأمره وسلطانه، ولو في الجملة.

إذا علمنا هذا، فلنعد إلى أصل المسألة التي طرحنا السؤال عن حكمها، وهو: استفادة الحي المشرف على الهلاك من عضو إنسان تعلق بحياته حق للغير واستوجب القتل. فنقول:

لا بد من تخريج هذه المسألة على تلك التي نقلنا أقوال الفقهاء فيها. فإن رجحنا ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة وبعض الحنفية، من جواز الإقدام على أكل من قد استوجب القتل شرعاً، عند الضرورة، فلأن يجوز هنا اقتطاع عضو منه ليزرع في جسم إنسان معصوم الدم مشرف على الهلاك، من باب أولى، ولا فرق في هذه الحال بين أن يسري اقتطاع هذا العضو من المستفاد منه إلى الموت أو لا. إذ إن مناط القول بصحة ذلك إنما هو زوال حرمة حياته واستحقاقه للقتل، والحالتان عندئذ سواء.

نعم، ينبغي اشتراط الضرورة بالنسبة لحال المستفيد. بحيث يقرر الطبيب العادل المختص أن لا بد لاستنقاذ حياته من زرع هذا العضو في جسده، ولا يقوم مقامه عضو اصطناعي أو عضو من حيوان غير نجس.

وسبب اشتراط الضرورة بهذا الشكل، يعود إلى ما هو مقرر من حرمة التمثيل في القتل عند إقامة حد أو استيفاء قصاص (٢) . ولا ريب أن اقتصاص جزء من الحي يدخل في معنى المثلة وحكمها. فينبغي أن يتوقف جواز ذلك على الاضطرار، كما ينبغي أن يكون التنفيذ محدداً بقدر الضرورة ذاتها، وأن نتخذ الوسائل الحديثة الممكنة التي تبعد العملية عن معنى المثلة وعن السبب الذي حرم من أجله، وهو التعذيب.

ولكن ينبغي ـ حسب القواعد التي اعتمدنا عليها في ترجيح هذا الرأي ـ أن لا يكون ثمة فرق في هذا الحكم بين أن تكون ضرورة المستفيد في نطاق استنقاذ الحياة، أو في نطاق الاستفادة من عضو أو طرف هام بعد تلفه أو إشرافه على ذلك، كالاستفادة من عين سليمة بدل عينه التالفة، إذ مهما كان قدر الفائدة العائدة إلى المستفيد المعصوم دمه، فإن رعايتها أرجح في ميزان المصالح الشرعية، من رعاية إنسان في حياته أو شيء من أعضائه أهدر دمه بحكم قضائي شرعي صحيح.


(١) انظر الأشباه والنظائر لابن نجيم من ٩٨ و ٩٩، والأشباه والنظائر للسيوطي: ص ٧٩
(٢) انظر مغني المحتاج للشربيني: ٤/٤٤ وبداية المجتهد لابن رشد: ٢/ ٣٩٧، والقوانين الفقهية لابن جزي: ص ٢٦١.

<<  <  ج: ص:  >  >>