للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا أنت رجعت إلى سورة البقرة، وإلى ما حدثنا الحق فيها عن أهل الكتاب، تري أن القرآن كشف لنا عن الدعوى المضللة التي يدعيها أهل الكتاب من أنهم الأفضل والأصلح، وبيَّن أنها دعوى زائفة، ذلك أن أهل الكتاب انحرفوا عن الخصائص التي كانت ترفعهم إلى مصافِّ الأمة الفاضلة وسرت فيهم العلل والأدواء التي شوهت العقيدة الصافية، والشريعة المنزلة، واختلت عندهم القيم والتصورات الإيمانية، كما اختل السلوك والقول والعمل، فمن اتهامات للخالق العظيم، إلى تشويه لسير الأنبياء، إلى تحريف للكتب المنزلة، إلى كتمان للعلم، وسفك للدماء، وتمرد على أحكام الشرع، واتباع الشياطين.

وبعد هذا البيان الطويل لحال الأمم التي تدعي الأفضلية في سورة البقرة يأتي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} . (١) . ليقرر مكانة هذه الأمة، وأنها الأمة الفاضلة كي تعرف مكانتها، ولا تهون في مواجهة أهل الكتاب، ولقد سمي أهل الكتاب الذين يحاولون انتقاص هذه الأمة، وإلقاء الشكوك حول تشريعها بالسفهاء {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} . (٢)

إنهم سفهاء فقدوا المقاييس القويمة، واختلت عندهم الضوابط، ولذلك صدرت عنهم أحكام خاطئة، وتصرفات باطلة.

أما الأمم الأخرى التي تنازع هذه الأمة الفضل، ففضلها دنيوي عارض، ليس له في ميزان الله اعتبار؛ لأنه قائم على متاع الدنيا العارض {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} . (٣) ، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} . (٤) ، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . (٥)

ولقد وصف القرآن الحضارات التي ارتقت في العلوم المادية، ولكنها انحدرت في عقيدتها وأخلاقها وقيمها بالضلال والزيغ.

إن المجتمع الذي يستحق أن يوصف بالرقي –في ميزان الله- هو المجتمع الذي يقيم حياته وفق منهج الله وتشريعه، وإن كان غير متقدم في مجال العمران والزراعة والصناعة.

أما الجاهلية فإنها تعتبر المجتمع راقيا إذا كان يملك العلوم المادية، والمجتمع المتأخر في عرفها هو المجتمع الفقير الذي لا يملك أسباب الرقي المادي وتنتشر فيه الأمية.


(١) البقرة: الآية (١٤٣)
(٢) البقرة: الآية (١٤٢)
(٣) آل عمران: الآية (١٨٥)
(٤) الأنعام: الآية (٣٢)
(٥) الروم: الآية (٧)

<<  <  ج: ص:  >  >>