للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونحن عندما ندرس المجتمع الإسلامي المثالي تراه كان مجتمعا فقيرا، لا يكاد الفرد يجد فيه ما يسدُّ رمقه، ولا ما يوراي جسده، وكانت بيوت الرسول (صلى الله عليه وسلم) يمر عليها الهلال والهلال، ثلاثة أهلة في شهرين –كما تقول أم المؤمنين عائشة - ولا يوقد نار لإنضاج طعام، والذين كانوا يحسنون القراءة والكتابة في ذلك المجتمع قليل، والصناعات والعلوم التي ترقى بالحياة في جانبها المادي كانت فيهم قليلة نادرة.

إن نظرة الجاهلية إلى المجتمع الصالح المتحضر تصادم نظرة الإسلام، إن الإسلام يَصِمُ أكثر التجمعات الإنسانية تقدما بالتأخر والرجعية والضلال إن لم تحقق العبودية لله، ولم تقم حياتها وتشريعاتها وفق منهج الله. إن هذا الرقي المادي والعلم المادي لم يخلِّص فرعون ونمرود وعادا وثمود وغيرهم من الأمم من مقت الله وغضبه، ليس معني هذا أن الإسلام يحارب الرقي المادي، فالإسلام يأمرنا أن نسعى في الأرض لنسخر ما فيها من خيرات لصالحنا، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} . (١) .

ولكنه يريد منا أن نبني هذا الرقي على أصول سليمة قويمة، يريدنا أن نقوم علوم الحياة ونضبطها بضوابط إلهية تحميها من الانحراف والضلال، فلا نقيم الصروح الضخمة التي تستنفذ طاقات الألوف وعشرات الألوف من البشر لغاية تافهة، كما فعل بناة الأهرام الذين أفنوا أعمار أجيال ليقيم الحاكم منهم هرما يكون له قبرا، أو كما فعل النصارى عندما أقاموا الكنائس الفخمة والأديرة، وبذلوا في سبيل ذلك جهودا وأموالا هائلة كان أكثر الأمة بحاجة إلى القليل منها. وقد أنكر هود على قومه مثل هذه الأفعال الحمقاء {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} . (٢) .

والجاهلية الجديدة أثمرت حضارة مادية هائلة سخرتها لخدمة الشيطان، وإقرار الظلم وإزهاق الحق، وامتصاص دماء الشعوب المغلوبة على أمرها، وأزهقت أرواح الملايين من البشر لا لشيء إلا لكي تكون العزة لأمة على بقية الأمم، أو لشعب على بقية الشعوب. نحن لا نوافق الأمم التي تدعي أنها الأفضل والأحسن لأنها تملك العمارات الشاهقة، والحدائق الغناء، والمسارح الرحبة، والقصور الفخمة، والشوارع المنسقة، والمدارس والجامعات والمستشفيات.. لا نوافقها على أنها الأفضل من أجل ذلك وحده، ولا لأنها توصلت إلى علوم هائلة بنت بها الرقي المادي، ولو كان هذا صحيحا فان اللص صاحب القصر الكبير أفضل من الشريف صاحب الكوخ الصغير، والعالم الذي يخطط لتدمير البشرية أفضل من الإنسان العادي الذي يسعى في إصلاح العباد.


(١) الملك: الآية (١٥)
(٢) الشعراء: الآية (١٢٨)

<<  <  ج: ص:  >  >>