للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد استشعر بعض أهل الورع والصلاح النهي عن العزل من قوله صلى الله عليه وسلم المتقدم: ((ما عليكم أن لا تفعلوا)) كالذي جاء في مسلم تعقيبًا على حديث أبي سعيد من طريق أبي الربيع الزهرانى، وأبي كامل الجحدري، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا عليكم أن تفعلوا ذاكم فإنما هو القدر)) (١) .

قلت: جاء في مسلم قوله: قال محمد (يعني ابن سيرين) ، وقوله: لا عليكم ... أقرب إلى النهي.

وجاء تعقيبًا على الحديث الموالي وهو مثله، لكنه من طريق محمد بن المثنى قوله: قال ابن عون: فحدثت به الحسن (أي البصري) ، فقال: والله لكأن هذا زجر (٢) .

وعندي أن الذي دفع بالرجلين من سلفنا الصالح إلى هذا الاستشعار إنما هو مزيد الورع والأخذ بالأحوط، وهو ما دعا القرطبي إلى القول: كأن هؤلاء فهموا من (لا) النهي عما سألوا عنه، فكأنه قال: ((لا تعزلوا، عليكم أن لا تفعلوا)) ، فيكون ((وعليكم أن لا تفعلوا)) تأكيدًا للنهي في لا تعزله) .

وفي هذا الكلام من الكلفة والتقدير ما حمل المتعقبين على القول بأن الأصل عدم التقدير (٣) وزعم بعضهم أن النهي عن الفعل مفهوم من الكلام، لأن المستفاد من صريح العبارة نفي الحرج عن عدم الفعل فمعنى: لا عليكم أن لا تفعلوا، لا حرج عليكم في ترك العزل، فأفهم ذلك ثبوت الحرج في الفعل، ولو أراد نفي الحرج عن الفعل لقال: لا عليكم أن تفعلوا.

وفي هذا التأويل ما لا يخفي من التكلف في اعتماد الفروض دون تحقيق والدليل على ذلك أنه يمكن السير في مجال الافتراضات لإثبات الحكم المقابل، فيقال: لو أراد صلى الله عليه وسلم المنع لما عبر بنفي الحرج أصلًا، بل لقال: لا تفعلوا، فإن الله قد حرمه عليكم، ولكنه لم يقل ذلك فلا منع ولا حرمة، كما يمكن أن يقال: إن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا عليكم أن لا تفعلوا)) هو على تقدير (لا عليكم أن تفعلوا أو أن لا تفعلوا) فحذف الفعل المثبت مع حرف التسوية (أو) لغرض ندبهم إلى التوكل على الله الذي بيده وحده تصريف الأمر، وهو المعنى الذي ألمح إليه القاضي أبو الوليد الباجي كما سيأتي قريبًا.

وليس هذا ببعيد في النتيجة – عن الافتراض القائل بأن (لا) في (لا أن لا تفعلوا) زائدة، قلت: وزيادتها واردة في لسان العرب الفصيح، وعلى ذلك جاء قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} إذ المراد من الآية كما قال المفسرون: وممنوع على قرية قدرنا إهلاكها أن يرجعوا عن ضلالتهم إلى الإيمان مادام قد حق عليهم الهلاك وقدر، فكانت (لا) زائدة للتوكيد والتأويل السليم لمدلول عبارته صلى الله عليه وسلم فيما فهمه الإمام النووي في شرحه على مسلم، وكذلك فيما أشار إليه القاضي أبو الوليد الباجي في منتقاه على موطأ مالك.


(١) مسلم: طلاق: (٢٢) .
(٢) مسلم: طلاق: (٢٣) .
(٣) الشوكاني، نيل الأوطار: ٣٤٨/٦ (ط-دار الجيل بيروت ١٩٧٣) .

<<  <  ج: ص:  >  >>