للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مذهب الإمام أبي يوسف في أداء قيمة الفلوس: وقد استدل بعض الباحثين على ربط الديون بقائمة الأسعار بما روي عن مذهب أبي يوسف – رحمه الله تعالى – في أداء قيمة الفلوس إذا تغيرت قيمتها عند أداء الديون. وقد ذكره العلامة ابن عابدين – رحمه الله – في رد المحتار وفي رسائل ابن عابدين. وقد ذكر أن الفتوى عند الحنفية على قول أبي يوسف وهو يقول: إن المقترض عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض، وعليه الفتوى.

فاستدل به بعض الاقتصاديين على أنه إذا وجب الدين في صورة الفلوس، فالواجب أداء قيمتها إذا طرأ عليها الغلاء والرخص، وهذا المذهب – كما يقولون – قريب جدًّا من فكرة ربط الديون بقائمة الأسعار. ولكن هذا الاستدلال عندي غير صحيح، والحقيقة إن مذهب أبي يوسف – رحمه الله تعالى – لا علاقة له بفكرة ربط الديون بقائمة الأسعار، لأن من المعلوم بالبداهة أن التضخم والانكماش ووضع قائمة الأسعار، وتقويم النقود على أساس تلك القائمة، كل هذه الأمور أمور حادثة لم تكن متصورة في زمن الإمام أبي يوسف – رحمه الله تعالى -، فحينما يقول أبو يوسف بأداء قيمة الفلوس، فإنه لا يمكن أن يريد به قيمتا المقدرة على أساس قائمة الأسعار، أو القيمة الحقيقية بالاصطلاح الاقتصادي المعاصر. والواقع أن الفلوس في الأزمنة المتقدمة كانت مرتبطة بنقود الذهب والفضة تقوم على أساسهما، وتعتبر كالفكة للنقود الذهبية والفضة. وكانت عشرة فلوس مثلا تعادل درهمًا واحدًا من الفضة، فكان الفلس الواحد يعتبر عشر الدرهم الفضي، ولكن قيمة الفلس هذه لم تكن مقدرة على أساس قيمتها الذاتية، وإنما كانت قيمة رمزية اصطلح عليها الناس، فكان من الممكن أن يتغير هذا الاصطلاح، بأن يصطلح الناس على أن الفلس الواحد الآن يعتبر نصف عشر الدرهم بعدما كان يعتبر عشره، فهذا هو المراد برخص الفلوس كما يمكن أن يصطلح الناس على أن الفلس الواحد الآن يعتبر خمس الدرهم، وهذا هو المراد بغلائها.

فإذا وقع غلاء الفلوس أو رخصها بهذه الصورة، فهل يؤدي المديون نفس عدد الفلوس الذي وجب في ذمته يوم العقد؟ أو يؤدي قيمة ذلك العدد يوم الأداء؟ قد وقع فيه خلاف العلماء. فقال أبو حنيفة – رحمه الله -: يؤدي نفس العدد الذي وجب في ذمته يوم العقد، ولا عبرة بالقيمة وهو المشهور من مذهب المالكية والشافعية والحنابلة.

فلو اقترض أحد مائة فلس في وقت يعتبر فيه الفلس الواحد عشر درهم واحد فاقترض فلوسًا تساوى عشرة دراهم في القيمة، ثم تغير الاصطلاح، حتى صار الفلس الواحد يعتبر نصف عشر درهم واحد. فذهب جمهور الفقهاء إلى أن المقترض لا يؤدي إلا مائة فلس، وإن كانت هذه المائة لا تساوي اليوم إلا خمسة دراهم. لكن خالفهم أبو يوسف – رحمه الله -، فقال: إنما يجب أداء قيمة الفلوس المقترضة على أساس الدرهم، فمن اقترض مائة فلس في المثال المذكور إنما يؤدي الآن مائتي فلس، لأن الفلوس فكة للدراهم، فمن اقترض مائة فلس، فكأنه اقترض فكة عشرة دراهم، وإن فكة عشرة دراهم يوم الأداء هي مائتان فلس، فالواجب عليه أداء مائتي فلس.

<<  <  ج: ص:  >  >>