للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والذي يظهر لي – والله أعلم – أن أساس الخلاف بين أبي يوسف والجمهور مبني على اختلافهم في تكييف هذه الفلوس، فيبدو أن جمهور الفقهاء اعتبروا الفلوس أثمانًا اصطلاحية مستقلة غير مرتبطة بدراهم والدنانير ارتباطًا دائمًا، فمن اقترض عددًا من الفلوس؛ فإنه يؤدي نفس العدد دون نظر إلى قيمتها بالنسبة للدراهم، وأما أبو يوسف – رحمه الله – فاعتبر الفلوس أجزاء اصطلاحية كالفكة للدراهم، فالمقصود بالاقتراض عنده ليس عدد الفلوس وإنما المقصود اقترض أجزاء للدرهم يمثلها ذلك العدد من الفلوس، فلذلك أوجب رد تلك الأجزاء للدرهم في صورة الفلوس، وإن اختلف عددها من العدد المقترض.

ونظير الرخص الغلاء الذي يأتي قيه قول أبي يوسف هذا، إن الروبية الباكستانية إلى أوائل الخمسينات كانت مقسمة على أربع وستين بيسة، (والبيسة نوع من الفلس في باكستان) ، ثم اختارت الدولة النظام الإعشاري، فأعلنت أن الروبية تكون الآن مقسمة على مائة بيسة،فكانت البيسة قبل هذا الإعلان ربع سدس الروبية، وصارت بعد هذا الإعلان عشر عشرها، فطرأ عليها الرخص بهذا القدر، فمن اقترض أربعًا وستين بيسة قبل الإعلان هل يؤدي بعد ذلك الإعلان نفس الأربع والستين بيسة. أو يؤدي مائة؟ الظاهر أنه يؤدي مائة، لأنه اقترض فكة روبية واحدة، فليؤد فكة روبية واحدة، وهي الآن مائة بيسة. فالحاصل أن قول الإمام أبي يوسف – رحمه الله – إنما يتأتى في فلوس مرتبطة بثمن آخر ارتبطًا دائمًا يجعلها كالأجزاء والفكة له، وإنما هي أثمان اصطلاحية مستقلة.

وبالتالي إن الوقوف على قيمة الفلوس حسبما يراه الإمام أبو يوسف ممكن تحقيقًا لأنها مرتبطة بعيار مضبوط من الثمن، وهو الدرهم، بخلاف النقود الورقية، فإن الوقوف على قيمتها الحقيقية حسب الاصطلاح الاقتصادي المعاصر، لا يمكن تحقيقًا، وإنما تكون هذه القيمة مقدرة على أساس الخرص والمجازفة، كما أوضحته فيما سبق، فلا يقاس هذا على ذاك وقد يستدل بعض الباحثين عل جواز ربط الديون بقائمة الأسعار، بأن الواجب في القروض أداء المثل، ولكن يجب أن يرجع في تعيين معنى المثلية إلى العرف، فما اعتبره العلاف مثلًا، ينبغي أن يعتبره الشرع أيضًا كذلك. وبما أن قيمة النقود المقدرة على أساس قائمة الأسعار تعتبر مثلًا للمبلغ المقترض في العرف الاقتصادي اليوم، فينبغي أن تعتبرها الشريعة مثلًا في أداء القروض. ولكن هذا الاستدلال غير صحيح أيضًا. أما أولًا، فلأن العرف إنما يصار إليه عند عدم النص، وقد بينا فيما سبق أن النصوص التي حرمت الربا قد عينت معنى المثلية بكل صراحة ووضوح، وإن المعتبر هو التماثل في القدر، فلا مجال بعد ذلك للعرف في تعيين معنى المثل. وأما ثانيًا: فإن كون القيمة الحقيقية " باصطلاح الاقتصاد " مثلا لم يصر عرفًا معتبرًا إلى الآن، حتى عند الاقتصاديين، فمن المعلوم بالبداهة أن معظم بلاد العالم لم توافق بعد على فكرة ربط الديون بقائمة الأسعار، وإنما طبقت هذه الفكرة في دول معدودة فحسب.

<<  <  ج: ص:  >  >>